الوقت - مع استمرار الصراع السوري، تتداخل المعارك العسكرية مع حسابات سياسية معقدة خلف الكواليس، في مشهد يكشف صراعًا مستمرًا على النفوذ والموارد بين الأطراف الفاعلة محليًا وإقليميًا ودوليًا.
الاشتباكات الأخيرة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل الموالية لتركيا غرب نهر الفرات تعكس التوترات المتصاعدة، لكنها تكشف أيضًا عن حراك سياسي مكثف في مسعى لإعادة تشكيل الخريطة السياسية والعسكرية في سوريا.
شهدت مناطق غرب نهر الفرات في الأيام الأخيرة اشتباكات متصاعدة بين "قسد" والفصائل الموالية لتركيا، حيث سيطرت "قسد" على عدة قرى في محيط سد تشرين، ما أثار رد فعل من الفصائل الموالية لتركيا، التي قصفت قرى في ريف تل أبيض وتل تمر، وتزامن ذلك مع محاولات للتقدم نحو قرى أخرى، قوبلت بصدّ عنيف من "قسد"، أدى إلى مقتل 3 من عناصر الفصائل وتدمير آليات عسكرية.
الاشتباكات امتدت إلى محور جسر قره قوزاق بريف حلب الشرقي بعد انتهاء هدنة استمرت أسبوعين، حيث استخدمت الأسلحة الثقيلة في قتال يعكس حجم التوتر، في الوقت ذاته، استمرت التحركات العسكرية الدولية، إذ استقدمت قوات التحالف تعزيزات ضخمة إلى قواعدها في ريف دير الزور، ما يعكس أهمية هذه المناطق استراتيجيًا.
خلف الكواليس.. لعبة المصالح الإقليمية والدولية
مع اشتداد المعارك، تدور خلف الكواليس تفاهمات ومفاوضات تسعى لإعادة ترتيب المشهد السوري، قوات "قسد"، المدعومة من الولايات المتحدة، تواجه ضغوطًا متزايدة من تركيا، التي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيًا.
تركيا، التي تُصعّد ميدانيًا في الشمال السوري، ترى في القضاء على "قسد" هدفًا استراتيجيًا لضمان أمنها القومي، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شدد مؤخرًا على ضرورة تحييد "التنظيمات الإرهابية"، وأكد أن بيئة الأمن الجديدة التي تسعى أنقرة لإنشائها في سوريا ستمنع هذه التنظيمات من تهديد الحدود التركية.
من جانب آخر، تُحاول "قسد" تعزيز موقفها عبر استغلال ملفات حساسة مثل الحرب على تنظيم "داعش" وحماية السجون التي تضم الآلاف من عناصره، كما تسعى لاستقطاب دعم خارجي لضمان استمرار الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا، إذ تشير تقارير إلى طلب قادتها دعمًا من "إسرائيل"، في خطوة قد تثير المزيد من التعقيدات السياسية.
الموقف الأمريكي: تذبذب وغياب رؤية موحدة
الموقف الأمريكي حاسم في تحديد مستقبل "قسد"، لكنه يبدو متذبذبًا، إدارة بايدن الحالية تدعم "قسد" كجزء من استراتيجيتها في محاربة "داعش"، لكنها تتعرض لضغوط من تركيا، الحليف الرئيسي في الناتو، التي تطالب بإنهاء دعم "قسد".
في المقابل، يشير مراقبون إلى احتمال تغيّر السياسة الأمريكية تجاه سوريا مع عودة ترامب المحتملة للبيت الأبيض، حيث قد يتبنى موقفًا أكثر انسجامًا مع المصالح التركية، تصريحات مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، باربرا ليف، عن ضرورة الانتقال المنظم لدور "قسد"، تعكس هذا التوجه.
على صعيد آخر، تسعى الحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع إلى توحيد البلاد وإزالة أي مظاهر للسلاح خارج نطاق الدولة، يعتبر وجود "قسد" في مناطق غنية بالموارد شرق الفرات تحديًا رئيسيًا أمام هذه الجهود.
الحكومة السورية، بدعم من تركيا، تسعى لدمج "قسد" في الجيش الوطني الجديد أو القضاء عليها عسكريًا إذا لزم الأمر، تصريحات الشرع تعكس إصرارًا على إنهاء ملف "قسد"، سواء عبر التفاهم أو القتال، بينما أكدت وزارة الدفاع التركية أنها ستدعم هذه الجهود.
في ظل هذا المشهد المعقد، تبدو سوريا أمام تحديات كبرى تتعلق بوحدة البلاد واستقرارها، صراعات النفوذ بين القوى المحلية، مثل "قسد" والفصائل الموالية لتركيا، تقترن بضغوط دولية من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، ما يضع مستقبل البلاد في دائرة عدم اليقين.
الضغوط الشعبية داخل مناطق سيطرة "قسد" تزيد المشهد تعقيدًا، إذ يتهم السكان المحليون القوات الكردية بالاحتلال وسوء الإدارة، هذا بالإضافة إلى التهديد المستمر الذي يمثله تنظيم "داعش"، الذي ما زال يشكل خطرًا كبيرًا، ما يمنح "قسد" ورقة ضغط تستخدمها لكسب الوقت.
سيناريوهات المستقبل
مع استمرار الصراعات وتزايد التدخلات الدولية، يبدو أن حل الأزمة السورية لا يزال بعيد المنال، بينما تحاول الحكومة السورية الجديدة فرض سيطرتها، تعمل "قسد" على تعزيز موقعها وكسب المزيد من الوقت، الضغوط التركية قد تؤدي إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق، وخاصة إذا لم يتم التوصل إلى تفاهمات سياسية.
على المدى الطويل، قد يكون الحل الوحيد هو التوصل إلى تسوية شاملة تضم جميع الأطراف، بما في ذلك تركيا و"قسد" والحكومة السورية الجديدة، لكن هذه التسوية تعتمد على تحقيق توازن معقد بين المصالح الإقليمية والدولية، وهو ما يبدو صعب المنال في الوقت الراهن.
تجد سوريا نفسها اليوم عند مفترق طرق حاسم، حيث تسعى الحكومة الجديدة إلى تحقيق الوحدة والاستقرار، وسط مشهد إقليمي ودولي مضطرب، بقاء "قسد" في مناطقها الحالية يشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق هذه الأهداف، بينما تبقى المعارك على الأرض والتفاهمات خلف الكواليس مرآة لصراع طويل الأمد على مستقبل البلاد.