الوقت - الرقابة العسكريّة الصهيونية تفرِض تعتيمًا كاملاً على مجريات الحرب في كلٍّ من قطاع غزّة وجنوب لبنان، لذا يلجأ العديد من "الإسرائيليين" للصحافة الأجنبيّة للحديث عمّا يُعانون إثر الحرب، ويكشفون المستور، ومهما يحاول أركان كيان الاحتلال تسويغ وتبرير جرائمه بحق الأبرياء العزل في فلسطين، وعلى نحوٍ خاصٍّ بحق الأطفال، يظهر للعيان في كلّ مرّةٍ دليل يفنّد كذبه، والمخفي أعظم وأخطر.
هذه المرة، جاءت الاعترافات صاخبة لا لبس فيها في اعتراف اثنيْن من جنود الاحتياط في الكيان أعلنا توقفهما عن الخدمة، لأنّ ما يشاهدان ويشاركان فيه “ليس حربًا وجودية، بل هو انتقام خالص”، حسب تعبيرهما.
وفي مقابلة نشرتها صحيفة (لوموند) الفرنسية، كشفت عن هوية المجند الأول، ويدعى ماكس فريش وهو يهوديٌّ أمريكيٌّ ملحدٌ، من عائلةٍ متدينةٍ، انتقل إلى كيان الاحتلال في العام 2014 وهو في سن 18 عامًا، والثاني هو مايكل عوفر زيف، ولد في عائلةٍ يساريّةٍ وقد التحق الاثنان بالجيش الإسرائيليّ الذي حشد أكثر من 300 ألف جندي احتياط في أعقاب هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام المنصرم 2023.
وإثر بداية العدوان على قطاع غزة، كتب ماكس فريش أحد الجنديين الاحتياطييْن السابقيْن، على صفحته الشخصيّة في موقع التواصل الاجتماعيّ (فيسبوك): “الآن حان الوقت لاحتضان أصدقائنا العرب والفلسطينيين”، وقد انتشرت هذه الرسالة على الفور في وحدته، ليتحول هذا الأخير إلى منبوذ، كما يروي لـلصحيفة، مضيفًا: “قيل لي إنّ قتل الأطفال واجبٌ دينيٌّ، لأنّهم عندما يكبرون سيصبحون إرهابيين، هذه الحالة الذهنية تحدد كلّ ما يحدث اليوم، وهذا غير مقبول”، طبقًا لأقواله.
أما الجندي مايكل عوفر زيف فقد خدم في غرفة القيادة بصفة ضابط مراقبة، وكان دوره متابعة تحركات القوات في غزة على شاشات تفاعلية، وخاصة لتجنب إطلاق النار بين الجنود الإسرائيليين، أي ما تُسّمى بالنيران الصديقة، وقد كان يظل محبوسًا لساعاتٍ طويلةٍ في غرفةٍ محرومًا من هاتفه، مفضلًا تجنب التواصل مع زملائه، لكونه يساريًا منغمسًا في التفكير بتدمير غزة، كما يروي للصحيفة الفرنسية.
يقول مايكل: “في أذهان الكثير من الناس بعد السابع من أكتوبر، لم يعد الفلسطينيون مجرد بشر، وأعتقد أنّ هذا المناخ لا يشجع الضباط على معاقبة جنودهم، وخاصة عندما يقومون بنهب أوْ تخريب الممتلكات الفلسطينية، فالنظام الذي كان من المفترض أنْ يعاقب أولئك الذين يرتكبون الأخطاء لم يعد يستجيب”.
وأردف المجنّد الإسرائيليّ قائلاً: “رأيت المباني تنفجر الواحد تلو الآخر، كان الأمر بالأبيض والأسود، ولم يكن هناك صوت، وبدا الأمر غير واقعي تقريبًا، اعتقدت أنّ هناك بعض المعلومات الاستخبارية القوية وراء ذلك، لكن شيئًا فشيئًا، ومن خلال مشاهدتي للقنوات التلفزيونيّة الأجنبيّة وشبكات التواصل الاجتماعيّ بعد خروجي من غرفة المراقبة، فهمت عواقب هذه الضربات”، كما قال.
وبالنسبة لجندي الاحتياط الشاب المذكور، جاءت نقطة التحول في كانون الأول (ديسمبر) 2023، عندما قُتل ثلاثة أسرى إسرائيليين، برصاص قنّاصٍ إسرائيليٍّ، عندما اقتربوا من الجنود، عراة القمصان، وأيديهم مرفوعة في الهواء لإظهار أنهم غير مسلحين، حتى إنّ أحدهم لوح بقطعة قماش بيضاء، وبعد ثلاثة أشهر في الاحتياط، وعلى غرار زميله ماكس فريش، أبلغ مايكل عوفر زيف قائده بأنّه لن يعود إلى وحدته، ووقّع على خطاب رفض الخدمة في نيسان (أبريل) الفائت، موضحًا للصحيفة الفرنسية: “كنا 42 شخصًا، والآن أصبحنا 130، ورفض الخدمة هو أحد أكبر المحظورات في إسرائيل.. أخشى أنْ ينظر الناس إلينا جميعًا كوحوشٍ متعطشةٍ للدماء..”.
في ختام المقابلة؛ يتذكّر مايكل عوفر زيف أنّ حرب عام 1973 أدت إلى السلام مع مصر، وهذا أحد أفضل الأشياء التي حدثت بالنسبة إليه، ولكن بعد ذلك مباشرة، أدرك أنّ "إسرائيل" تغيّرت منذ ذلك الوقت، ثم يتغلب عليه اليأس، ويقول لنفسه إنّه يجب أنْ يحزم حقائبه، كما أنّ زميله ماكس فريش يمر بالحالة الذهنية نفسها، فهو يفكر أيضًا في مغادرة دولة الاحتلال للأبد، وفق ما أكّده للصحيفة.
على صلةٍ بما سلف، كشفت صحيفة (يديعوت أحرونوت)، النقاب عن أنّ طيارًا حربيًا في سلاح جوّ الاحتلال، انتحر، بسبب إصابته بصدمة المعركة وفقًا لعائلته.
ونقلت الصحيفة عن عائلة الطيار المنتحر ويدعى آساف داغان، قولها إنّه تنقل على مدى 20 عامًا، من التحاقه بجيش الاحتلال بين لواء المظليين والوحدة 8200 الاستخبارية وسلاح الجو، وعزل نفسه مؤخرًا وكان في حالة إنكار بإصابته بصدمة المعركة قبل انتحاره.
في ختام هذا التقرير، يتضح أن الواقع في المناطق المحتلة، سواء في قطاع غزة أو جنوب لبنان، يكتنفه ظلامٌ من التعتيم العسكري الذي يفرضه الكيان الصهيوني، ومع ذلك، تبرز أصوات الشجاعة من داخل هذا الكيان، حيث يتحدث جنود احتياط عن تجربتهم ومعاناتهم، كاشفين النقاب عن حقيقة ما يحدث على الأرض، وإن اعترافاتهم تؤكد أن ما يشاهدونه ليس مجرد مواجهة وجودية، بل هو انتقام مروع يستهدف الأبرياء، وخاصة الأطفال.
تتجلى أهمية هذه الشهادات في تسليط الضوء على التحولات السلبية في العقلية العسكرية، حيث يتم تصوير الفلسطينيين كأعداء وليس كأشخاص لهم حقوق وحياة.
حيث إن ظاهرة العنف والتخريب تظل بلا عقاب، ما يساهم في تفشي مناخ من الإهمال وغياب الإنسانية، ومن خلال هذه الشهادات، نستطيع أن نفهم أن المخفي أعظم، وأن هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في القيم الإنسانية التي يجب أن تحكم أي صراع.
إن هذه الرسائل لا تمثل فقط صوتًا فرديًا، بل هي تعبير عن قلق أكبر تجاه ما يحدث في المنطقة، ما يستدعي المجتمع الدولي للوقوف أمام هذه الحقائق والتدخل لإيجاد حلول تنهي معاناة الأبرياء وتعيد للإنسانية مكانتها.