الوقت- من المؤكد أن الحرب التي تشن على غزه باتت تشكل منعطفاً ومفصلاً تاريخياً مهماً أعاد للقضية الفلسطينية أهميتها وأولويتها على الأجندة الدولية بعد أن فشلت حكومة الحرب الصهيونية من تحقيق أهدافها في ضرب قوى المقاومة وإسكات الشعب الفلسطيني عن المطالبة بحقوقه الوطنية المشروعة وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، هذا ما أثبتته مواقف دول ومنظمات وشركات عديدة بزيادة الضغط على الكيان الغاصب من خلال سحب العديد من الاستثمارات وتنظيم حملات مقاطعة واسعة وانتشار الوعي العام العالمي وهو ما عبرت عنه مجلة "ذا نيشن" الأمريكية بأنه نجاح كبير للحركة المناصرة لفلسطين.
النهضة الإيرلندية
مع بدء الفصل الدراسي الجديد، تقول جيني ماغواير، الرئيسة الجديدة لاتحاد طلاب كلية ترينيتي في دبلن: إن الاتحاد قد تغير بشكل جذري عبر مخيم التضامن مع غزة، ولا يزال ثابتا في التزامه بفلسطين الحرة، وفي هذا السياق تشير إنجازات جامعة ترينيتي إلى تحول أوسع في الوعي العام.
وأكدت ماغواير أن الجامعة تخلصت بالكامل من الاستثمارات في الأراضي المحتلة في حزيران/ يونيو، وأشارت إلى أن “كل شيء يسير وفقا للخطة، لكن الاتحاد ليس ساذجا.. وإذا فشلت كلية ترينيتي في الوفاء بوعدها في ما يتعلق بسحب الاستثمارات بالكامل، أو إذا بدا أن فريق العمل غير فعال، فإن الاتحاد سيتخذ إجراء”.
من الجدير بالذكر أن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، تنشط في حرم كلية ترينيتي دبلن على مدى السنوات الثماني الماضية، وفي سنة 2022، أدت احتجاجاتها إلى سحب كلية ترينيتي لاستثماراتها في أسهم الشركات المصنعة للأسلحة بقيمة تزيد على 2.7 مليون دولار، بما في ذلك أكثر من 788 ألف دولار مستثمرة في شركة لوكهيد مارتن، وحوالي 958 ألف دولار في شركة رايثيون تكنولوجيز، وأكثر من 185 ألف دولار في شركة بي إيه إي سيستمز، وجميعها تبيع الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة لـ"إسرائيل".
وفي مايو الماضي، أصدرت الكلية اتفاقية سحب الاستثمارات، وأصبحت حركة طلاب ترينيتي واحدة من أوائل الحركات في جميع أنحاء العالم التي تمت تلبية مطالبها، وحرص اتحاد طلبة الكلية وحملة المقاطعة الخاصة به على تنظيم اعتصامات من أجل فلسطين على مدار السنة، وقال لازلو مولنارفي رئيس اتحاد طلبة ترينيتي السابق: إنه “بمجرد أن أقامت جامعة كولومبيا معسكرها، شعرنا بالإلهام لفعل الشيء نفسه، لقد شعرنا حقّا بوجود حركة جماهيرية هنا".
وبعد قرابة عقد من حملات المقاطعة وسنة من التعبئة المتزايدة، أقام الطلاب معسكرا في ساحة فيلوز في الثالث من أيار/مايو، مطالبين كلية ترينيتي في دبلن بقطع جميع العلاقات مع "إسرائيل".
وفي الثامن من أيار/مايو الماضي، أصدرت الكلية اتفاقية سحب الاستثمارات، وأصبحت حركة طلاب ترينيتي واحدة من أوائل الحركات في جميع أنحاء العالم التي تمت تلبية مطالبها، وأشارت مجلة "ذا نيشن" الأمريكية إلى أن الاتفاقية تضمنت سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية التي لها أنشطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمدرجة على القائمة السوداء للأمم المتحدة، وقطع العلاقات مع موردها الإسرائيلي الوحيد، إنسباير ساينس، وتوسيع الدعم للطلاب الفلسطينيين، وإنشاء فريق عمل سينظر في سحب الاستثمارات من الاستثمارات المتبقية في الشركات الإسرائيلية، ومراجعة جميع الروابط الأكاديمية وبرامج تبادل الطلاب والتعاون البحثي، ويبلغ حجم هذا الأخير أكثر من 2.7 مليون دولار لتمويل مشاريع بحثية جارية تشمل الجامعات والمعاهد الإسرائيلية، بما في ذلك جامعة تل أبيب، ومعهد تكنيون-إسرائيل للتكنولوجيا، ومعهد وايزمان للعلوم، ومعهد كي للأبحاث، وجامعة بن غوريون.
صناديق نرويجية تسحب استثماراتها
يتصاعد الضغط المالي على كيان الاحتلال الإسرائيلي مع سحب الاستثمارات والأموال منه ومن الشركات الداعمة للاحتلال، وجاءت آخر هذه الضغوط من النرويج وللمرة الثانية في غضون أيام، فبعدما أعلن الصندوق السيادي النرويجي، أكبر صندوق سيادي في العالم مؤخراً، أنه يبحث سحب استثماراته من كيان الاحتلال، أعلن صندوق نرويجي آخر تبلغ أصوله حوالي 95 مليار دولار إقدامه على خطوة مماثلة.
ووفق تقرير من اتحاد النقابات العمالية العالمي، "يوني" فقد سحب أكبر صندوق معاشات تقاعدية في النرويج، وهو كي أل بي، استثماراته من 16 شركة بسبب علاقاتها بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، وقال الصندوق في بيان أعلن فيه هذه الخطوة: "هناك خطر غير مقبول يتمثل في مساهمة الشركات التي تم استبعادها في انتهاك حقوق الإنسان والمساهمة في تمويل الحرب والصراع من خلال صلاتها بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة".
وجاء قرار شركة KLP من خلال تطبيق معايير حقوق الإنسان على استثماراتها، وذلك وفق مخاطر حقوق الإنسان الواردة في تقرير الأمم المتحدة لعام 2020 على أن لها ممارسات مرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية، ويأتي الاستبعاد بعد أسابيع من انسحاب صندوق الثروة السيادية النرويجي، الذي يديره بنك نورجيس، من شركات البناء والعقارات في كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتعترف الأمم المتحدة بأن احتلال الضفة الغربية غير قانوني.
ووفق تقرير بموقع "يوني غلوبال يونيون" الذي يضم نقابات عمالية في 150 دولة، قالت كريستي هوفمان، الأمين العام للاتحاد العالمي لـ UNI: "تنبغي الإشادة بصندوق KLP لاتخاذها هذه الخطوة نحو السلام وضد الاحتلال"، وتابعت: "لا ينبغي للمستثمرين أن يستفيدوا من انتهاكات حقوق الإنسان مثل المصادرة غير القانونية للأراضي الفلسطينية واستيطانها، ويجب على المستثمرين، مثلهم مثل الشركات، أن يبذلوا العناية الواجبة في ما يتعلق بحقوق الإنسان بشأن استثماراتهم، ويجب عليهم أن يدركوا أن الشركات التي حددتها الأمم المتحدة على أنها تعمل على تمكين المستوطنات متشابكة بشكل غير مقبول مع انتهاكات حقوق الإنسان وتتصرف على غرار نموذج KLP".
ويعد سحب استثمارات KLP جزءًا من التزام أوسع بحقوق الإنسان، وفي الشهر الماضي، أعلنت عن سحب استثماراتها من موانئ أداني بسبب علاقات شركة الخدمات اللوجستية الهندية بالحكومة العسكرية في ميانمار، وفي الشأن ذاته، يدرس صندوق الثروة السيادية النرويجي تشديد المعايير الأخلاقية لاستثماراته، وسحب الاستثمارات من المزيد من الشركات العالمية المرتبطة بالحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، حسب ما ذكرته "رويترز"، وفقا لرسالة اطلعت عليها أرسلها مجلس الأخلاقيات التابع للصندوق إلى وزارة الخارجية النرويجية في 30 أغسطس/آب الماضي.
الضغط يتصاعد من أستراليا
هذه المرة من الجامعة الوطنية الأسترالية التي أعلنت عزمها مراجعة محفظتها الاستثمارية، وذلك بعد أشهر من الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في حرمها الجامعي بالعاصمة الأسترالية كانبرا، ورغم هذا الإعلان، فقد أوضح الطلاب أنهم لن يتركوا مكان الاعتصام حتى تقطع الجامعة علاقتها بتلك الشركات، فضلا عن مطالبتهم بإيقاف الشراكة القائمة مع الجامعة العبرية في القدس.
وحسب التقرير الذي نشرته الجامعة الوطنية الأسترالية في يوليو/تموز من عام 2023 عن استثماراتها، فإنه يتبين امتلاكها لاستثمارات في شركة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية، وشركة "لوكهيد مارتن" الأمريكية، وشركة "نورثروب غرومان" الأمريكية، وغيرها من الشركات التي تسهم مباشرة بتوريد الأسلحة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
وقد أشار التقرير إلى أن "الدعوة الأخيرة من مجتمعنا ساعدت في لفت الانتباه إلى عدم الوضوح في سياسة الاستثمار المسؤول اجتماعيا بشأن الإيرادات والاستثمارات التي تدخل في تصنيع وبيع التقنيات ذات الاستخدامات العسكرية".
وأضاف التقرير "هذه المشكلة ليست محصورة في الجامعة الوطنية فقط، ولكنها تمتد إلى جميع أنحاء قطاع الجامعات في أستراليا". ويوضح التقرير أن "تغيير مشاعر المجتمع يتطلب اعتبارات جديدة للمحفظة الاستثمارية للجامعة"، ويذكر أن جامعات أستراليا شهدت مظاهرات ممتدة طوال الأشهر الماضية رفضا للحرب الإسرائيلية على غزة، رغم العنف الذي واجهت به الشرطة المتظاهرين.
ختام القول
حركة سحب الاستثمارات والمقاطعة باتت حركة عالمية، وترينيتي ليست سوى جزء صغير منها، وبجهود أحرار العالم المشتركة، يمكن أن تكون بداية لفقدان "إسرائيل" الشرعية الاجتماعية، بسبب جرائمها التي تقترفها بحق الفلسطينيين منذ أكثر من 76 عاماً.