الوقت- أعلن الجيش الصهيوني يوم الأحد الماضي في حدث مهم أنه سيسحب جزءاً مهماً من قواته من جنوب غزة وسيبقى لواءين فقط في النصف الشمالي من قطاع غزة، وذلك "للحفاظ على حرية عمل الجيش وقدرته على تنفيذ استمرار العمليات العسكرية بدقة". وبهذا الوصف يمكن القول إن الكيان الصهيوني قد سحب الآن جميع قواته البرية من غزة، باستثناء لواء ناحال، ويبدو أن لواء ناحال مسؤول أيضاً عن منع عودة المدنيين من جنوب إلى شمال غزة بعد سيطرته على الخط الأوسط. ويعتبر هذا التراجع لحظة مهمة في هذه الحرب، وتقييم الوضع الميداني وادعاء الصهاينة يزيد من أهميته في التنبؤ بالأحداث المستقبلية.
وقد أعلن الصهاينة عن الإجراء الأخير بأنه مجرد خطة تكتيكية في طريق دفع الحرب ومن أجل الاستعداد لهجوم واسع النطاق على رفح، وللتقليل من التكهنات والشائعات، اعتبروا أن التوقف قبل بدء الحرب هو "المرحلة الثالثة"، ومن الناحية العسكرية، فإن عملية الجيش الصهيوني في غزة حتى الآن تتكون من مرحلتين: 1- قصف جوي و2- هجوم بري، وفي مرحلة ما كان الصهاينة قد سحبوا اللواء 36 من الجيش، المعروف باسم فرقة جولاني، من ساحة المعركة لتحل محل القوات، والآن يعتقدون أن هذا الانسحاب من نفس حركة القوات بعد نحو أربعة أشهر من القتال العنيف في مدينة خان يونس لا يشكل تغييراً كبيراً في استراتيجية الحرب.
ومساء الأحد أيضًا، قال هرتسي حلافي، رئيس أركان الجيش الصهيوني، في مؤتمر صحفي: إن العملية العسكرية ضد حماس لن تنتهي رغم انسحاب الجنود، ووعد مرة أخرى بأنه "عاجلا أم آجلا سنصل إلى كبار مسؤولي حماس الذين ما زالوا مختبئين"، من ناحية أخرى، قال يوآف جالانت، وزير دفاع الكيان الصهيوني، في موقف آخر يوم الأحد الماضي: إن جنود الاحتلال انسحبوا من جنوب غزة استعدادًا لعملية محتملة في مدينة رفح.
ورغم أن الصهاينة يزعمون أن هذا التراجع لا يعني قبول الهزيمة وأن العمليات في رفح مؤكدة، فقد أثيرت حول ذلك شكوك مختلفة، ما يدل على أن الواقع شيء آخر، ففي البداية، لم توضح السلطات العسكرية في الجيش لماذا انسحبت كل القوات أمس بينما تم استبدال جزء كبير من القوات للتو؟ أليس من المنطقي أنه إذا كانت هناك نية لبدء المرحلة الثالثة من العملية، فيجب استبدال القوات القديمة فقط؟
كما تقول السلطات الإسرائيلية، في تبريرها للانسحاب: إن العملية في خان يونس انتهت ولم يعد هناك ما يمكن القيام به، وقال مسؤول عسكري تحدث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية: "ليست هناك حاجة لنا للبقاء في خان يونس"، ودمرت الفرقة 98 كتائب خان يونس التابعة لحماس بشكل كامل وقتلت الآلاف من أعضائها، "لقد فعلنا كل ما في وسعنا هناك".
وهذا الادعاء أيضًا كاذب تمامًا، لأنه أولاً، بعد ساعات قليلة من انسحاب الجنود الإسرائيليين، تم إطلاق عدة صواريخ من مدينة خان يونس باتجاه "إسرائيل"، ما أظهر أنه مع انسحاب قوات الجيش من المحتمل أن يحدث فراغ أمني، وكما رأينا في شمال غزة أن قوات حماس نفذت عمليات متكررة في منطقة دخند هذه، فإن الفجوة الأمنية الآن يمكن أن تؤدي إلى عودة نواة حماس، وفي الوقت نفسه، تشير بعض التقارير إلى أن الفرقة 98، وهي مظليون في الجيش الصهيوني، فقدت ما يصل إلى 70% من قوتها وقدرتها العملياتية في الحرب.
على الرغم من بقاء بعض القوات لتقوم بشكل رئيسي بدوريات في الممر الشرقي الغربي الذي يقسم القطاع، وإذا كانت تل أبيب تنوي مهاجمة رفح، مع هذا الانسحاب بسبب التفوق الإقليمي لخان يونس على رفح، فإن الصهاينة سوف يستولون على الأرض بشكل فعال، ومن غير المرجح حدوث غزو بري واسع النطاق لرفح، على الأقل في المدى القصير.
علاوة على ذلك، من المهم الإشارة إلى أنه خلال الأشهر الستة التي تلت الحرب، لم يتمكن الصهاينة من تحقيق أهدافهم الرئيسية، أي إطلاق سراح الأسرى والقضاء على حماس، ولم يحققوا أي شيء لدعم فريقهم المفاوض في القاهرة من أجل الضغط على حماس، لذلك، إذا كان هذا الانسحاب يمثل بالفعل مرحلة جديدة مهمة من العملية، فهو يمثل مخاطرة كبيرة لأنه إذا لم يصاحب هذا الإجراء تقدم ملموس في العملية السياسية، فإن أي مكاسب عسكرية قد تترتب عليها تدمير "إسرائيل" بسرعة.
ولكن على النقيض من انسحاب القوات في الوقت نفسه الذي تبدأ فيه الجولة الجديدة من المفاوضات في القاهرة، والتي ستعقد بحضور قادة الأمن الإسرائيليين (بما في ذلك رؤساء الموساد والشين بيت) وحسب ما ورد فالإعلام الصهيوني الذي يتمتع "بصلاحيات واسعة" يمكن أن يؤدي إلى قبول أحد الشروط الأساسية لتفسير المقاومة في المفاوضات، ولطالما اقترحت حماس الانسحاب الكامل للقوات العسكرية الإسرائيلية من غزة كأحد شروط الاتفاق، ومن بين شروط حماس الأخرى وقف دائم لإطلاق النار وعودة النازحين إلى منازلهم والتوصل إلى اتفاق "جاد" لتبادل الأسرى الفلسطينيين وإعادة بناء الأنقاض، وفي هذا الوضع يبدو أن تهديدات الصهاينة ببدء المرحلة الثالثة من الحرب ومهاجمة مدينة رفح، تأتي بالأساس للحفاظ على اليد العليا في المفاوضات وأخذ نقاط من المقاومة.
علاوة على ذلك، فإن ما يظهر تحرك الصهاينة كخطوة نحو تعزيز مسار التفاوض هو تزايد ضغوط المجتمع الدولي على تل أبيب لوقف الحرب، ويواجه مجلس الوزراء الصهيوني، وخاصة بعد الموافقة على القرار في مجلس الأمن الدولي، قصفاً شديداً لقوات الإغاثة التابعة لمنظمة المطبخ العالمي، والذي أدى إلى مقتل سبعة من عمال الإغاثة، وانتشار الاحتجاجات الداخلية، لكن هناك قضية أخرى مهمة يجب الانتباه إليها وهي المخاوف المنتشرة داخل الأراضي المحتلة من تهديدات محور المقاومة بعد الهجوم الجبان على القنصلية الإيرانية والمقر الدبلوماسي في العاصمة السورية.
وقال رئيس أركان الجيش الصهيوني، حلافي، قبل عدة أيام: إن الجيش على استعداد جيد لمواجهة رد انتقامي محتمل على عدة جبهات ضد إيران ووكلائها، وتدل هذه الكلمات على أن الصهاينة يواجهون ارتباكاً استراتيجياً في التنبؤ بنوع العمليات الانتقامية للمقاومة، وعليهم السيطرة بعناية على كل الجبهات التي تواجد فيها قوات المقاومة، ويتطلب الحفاظ على هذا الاستعداد العملي الحد الأقصى من استدعاء القوات العسكرية والأمنية، وبما أن غالبية القوة القتالية للجيش منشغلة في غزة، فإن التراجع الكبير والقبول غير الرسمي بالهزيمة كان الحل الوحيد أمام الحكومة.