الوقت- نتيجة الفلتان الأمنيّ من تصاعد الاشتباكات، يقوم المدنيون بعبور نهر الفرات باستخدام قوارب نهرية من منطقة الكشكية التي تخضع لسيطرة "قسد" أو ما تعرف بـ "قوات سوريا الديمقراطيّة"، متجهين نحو مناطق تخضع لسيطرة الحكومة السورية في منطقة الجزيرة، وقد شهدت محافظة دير الزور في شرق سوريا خلال الأيام القليلة الماضية موجة نزوح واسعة، نتيجة لتصاعد الاشتباكات بين مقاتلين من العشائر العربية وما تُعرف بـ "قوات سوريا الديمقراطية"، وذلك نتيجة لانتهاكات ارتكبتها القوات المذكورة ضد المدنيين في مناطق ريف دير الزور الشرقي، حسبما يتهمها به سكان تلك المناطق، ومع تصاعد حدة العنف في المنطقة، اضطر العديد من السكان في بعض المناطق إلى مغادرة منازلهم. ومن بين هذه المناطق، شهدت قرية "الربيضة" في شمال محافظة دير الزور نزوحًا شبه جماعي للأهالي إلى قرية "أبو النيتل" القريبة، ولم يكن سبب هذا النزوح مقتصرًا على الاشتباكات فقط، بل كان هناك أيضًا خوف من التعرض للاعتقال، وقد تعرض بعض سكان القرى المجاورة للاعتقال، ويُقدر ناشطون عدد المعتقلين في تلك المناطق بحوالي 150 مدنيًا.
أهالي دير الزور في وضع صعب
يتحدث شهود عيان لوسائل إعلام أنه عند محاولتهم عبور نهر الفرات واللجوء إلى منطقة "الحويجة" وسط النهر بعد هروبهم من المناطق التي شهدت معارك عنيفة، تم إجبارهم وعدد كبير من الأهالي على البقاء داخل منطقة الحويجة لمدة يومين دون توافر أدنى مقومات الحياة، ويؤكدون أن قوات "قسد" قامت بقصف تلك المنطقة بواسطة الرشاشات، ما دفعهم إلى مغادرتها والسباحة عبر النهر إلى بلدتهم "الصبحة" في ريف دير الزور الشرقي، وأثناء محاولة العبور من مناطق سيطرة "قسد" عبر نهر الفرات إلى الضفة الشرقية حيث مناطق الدولة السورية، يتعرض النازحون لعدة مخاطر، ويضطرون لاستخدام زوارق نهرية تُعرف بـ "الطراد" نظرًا لتدمير جميع الجسور على نهر الفرات، ما يزيد من تعقيد وصعوبة عملية العبور.
وفي هذا السياق، قام البعض بدفع مبلغ كبير من المال لتنفيذ عملية النزوح مع عائلاتهم من منطقة "ذيبان" إلى مدينة "الميادين" عبر نهر الفرات، ورغم المخاطر الكبيرة التي واجهها هو وعائلته خلال هذه العملية والتي كادت تؤدي إلى فقدان حياتهم، فإنّ جميع العوائل يعبرون نهر الفرات على شكل مجموعات صغيرة، ويقومون بهذا التنظيم لتجنب التجمع على شاطئ النهر، حفاظًا على سلامتهم وتجنبًا لجذب الانتباه إلى وجودهم من قبل الطائرات المسيّرة التي تستخدمها قوات "قسد".
وبالمقابل، أبدى البعض من سكان بلدة "البحرة"، استعدادهم للبقاء في بلدتهم رغم التحديات الكبيرة في تأمين الاحتياجات الأساسية. وقد قرروا البقاء رفضًا للمخاطرة بحياة أبنائهم وأفراد عائلتهم، وبفعل الاشتباكات، شهد ريف دير الزور الشرقي نقصًا حادًا في المواد الغذائية الأساسية، وأصبحت الأسواق شبه خالية من البضائع، ويعزى هذا النقص بشكل أساسي إلى انقطاع الطريق بين محافظتي دير الزور والحسكة، والتي تعتبر الشريان الرئيس لنقل البضائع إلى المحافظة، وفقًا لما صرح به ياسر الشيخ، مدير منظمة سما التي تعمل في محافظة دير الزور، حيث إن محطات تنقية المياه توقفت عن العمل أيضًا بسبب نقص مادة المازوت، وإضافة إلى تعرض بعض تلك المحطات للتخريب، كما توقفت العديد من الأفران بسبب نقص الطحين وارتفاع أسعاره.
وأشار إلى أنه تم تأسيس عدد من اللجان المحلية في قرى وبلدات الريف الشرقي لإدارة شؤون الحياة المدنية في تلك المناطق.
خطأ تاريخيّ لقوات سوريا الديمقراطيّة
وفي ظل استمرار تصاعد التوترات في المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا وتصاعد التصريحات والتهديدات بين الأطراف المعنية، قامت الأقلية العرقية التي يبلغ عدد سكانها في سوريا أقل من مليوني نسمة وتقريبًا 30 مليون نسمة في منطقة الشرق الأوسط بالاستفادة من الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي كفرصة لإقامة كيان جغرافي في مارس 2019، وقامت قوات سورية الديمقراطية المعروفة بـ "قسد"، والتي تمثل مظلة للمقاتلين الأكراد وأقليات عرقية أخرى، بالسيطرة على ما يقرب من ثلث أراضي سوريا الغنية بالنفط، ويقيم على هذه الأراضي ملايين السوريين، وتشمل هذه الجماعات في الغالب أشخاصًا من العرب ومناطق أخرى غير الأكراد، وقد شهد تأسيس ما يُعرف بـ "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا، التي تدير المناطق الواقعة في شمال شرق البلاد وشرقها، تطورًا مهمًا في المشروع السياسي الذي يقوده حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي".
وبعد اعتماد الإدارة الذاتية الكردية خطاب الحكم الذاتي كتهديد للمشروع الأوسع وتوسعه، وبعد محاولتها مكافحة مفهوم التعايش والاعتراف المتبادل بين مختلف مكونات المنطقة، متجاهلةً بذلك أهمية الهدف التخريبي أو السلطة الفعلية في المناطق التي تسيطر عليها، والتي تشكل الأغلبية العربية وتصل إلى نسبة 80٪ في هذه المناطق، يمكن اعتبار هذا التجاهل تجاه أكبر قومية في الشرق الأوسط تعبيرًا عن "قلة الحكمة السياسية" في المقام الأول، وعن "تناقض المشروع" في المقام الثاني، فالنهج الحاكم الذي يعتمده في هذه المناطق يولِّد مشاعر استياء وحقد بين السكان العرب نتيجة للسياسات العنصرية.
وتظهر التحفظات من قبل الحكومة السورية تجاه السياسيين الأكراد، وربما يكون ذلك بسبب أن حلمهم أصبح واضحًا للجميع، إذ يشكلون رابع أكبر مجموعة عرقية في المنطقة ويسعون إلى إنشاء دولتهم القومية الخاصة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولكن عوامل متعددة منعت تحقيق هذا الحلم على مر العقود، وتشكل أكبر تحدٍّ في هذا السياق اعتماد الأكراد بشكل دائم على دعم خارجي واعتقادهم بأن إقامة دولتهم القومية ستنجم عن تقسيم عدة دول، ما يعني بالضرورة تصاعد التوترات والصراعات المفتوحة ضد هذا المشروع."
وهذا البلد استضاف الأكراد الذين هربوا من اضطهاد حكومة تركيا في عام 1925 بعد ثورة "سعيد بيران" ضد سياسة التتريك والاضطهاد التي تبنتها حكومات مصطفى كمال أتاتورك، وساعدت هذه البلاد وكرّمت الأكراد ووقفت معهم واستقبلتهم بحفاوة.
ومن بين الأدلة على هذا الاستقبال الدافئ قدوم زعيم الأكراد الأتراك الشهير عبد الله أوجلان، الذي تمت تجليته في سوريا من قبل الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، الذي كان يتميز بشخصيته السياسية الفريدة، وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها تركيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، إضافة إلى التهديد بالتدخل العسكري لتسليم أوجلان، إلا أن سوريا رفضت تسليمه وقرر أوجلان تركها بنفسه."
السياسيون الأكراد هم الخاسرون
ينبغي على السياسيين الأكراد، الذين يتحكمون في مصير الشعب الكردي، أن يعترفوا بالجهود والدعم الذي قدمته لهم سوريا وشعبها، بدلاً من المشاركة في مؤامرات ضدها والانخراط في مشاريع تدميرية تخدم مصالحهم الشخصية، إنهم الخاسر الأكبر في هذه المشاريع نظرًا لضعف تجربتهم السياسية بشكل لا يُصدّق، ويجب أن يتذكروا أن دمشق كانت دائمًا شريكًا موثوقًا بهم.
وفي الواقع، قدمت سوريا دعمًا وتسليحًا للأكراد كجزء من شعبها لمواجهة الإرهابيين الذين اجتاحوا البلاد بأسماء وهمية بناءً على دعم وتمويل من دول أخرى.
لم يخف القادة الكرد هذا الدعم، بل اعترفوا به صراحة، وعلى سبيل المثال، عند هجوم تنظيم "داعش" والجيش التركي على كوباني، أقر القادة الكرد بأن الدولة السورية سلحتهم ومولتهم، لكن ردهم كان مؤسفًا حيث قاموا بالتآمر مع الأجانب ضد بلدهم وشاركوا في قتال الجيش العربي السوري في مناطق عدة وأعلنوا عن مناطق حكم ذاتي انفصالي، وللأسف، أدخلوا القوات الأمريكية إلى مناطقهم تحت ذريعة الحماية الذاتية من مواطنيهم وقاموا بتقييد الحريات العربية في تلك المناطق وارتكبوا اغتيالات ضد شخصيات معروفة هناك، ولا يمكننا نسيان عمليات التطهير العرقي التي حاولوا تنفيذها في محافظة الرقة، على الرغم من أن الجميع يعلم أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في تلك المحافظة وأن هناك عددًا قليلًا من الأكراد فيها إذا كان هناك أصلاً.
في الختام، يجب على القادة الكرد أن يتجنبوا التورط مع أعداء بلدهم، ويجب أن ندرك أن دمشق التي استقبلت النازحين سترحب بأي خطوة جادة وحقيقية من السياسيين الأكراد الانفصاليين للعودة إلى وطنهم وتصحيح مسارهم، حيث يمكن للتفاوض والتعاون أن يقدما مزيدًا من الفرص للمصالحة والتواصل، وينبغي على الأكراد أن يتخلوا عن الخيانة والاستقواء بالقوى الخارجية ضد شعبهم، وهذا على الرغم من التحديات التي واجهوها من قبل بعض الأطراف الخارجية.
والجدير بالذكر أن بيع النفط السوري الموجود في المناطق التي يسيطرون عليها والذي يتم تنظيمه بإشراف الولايات المتحدة يؤثر بشكل سلبي على الشعب السوري بأكمله، الذي يعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية صعبة، ويجب على القادة الكرد أن يوقفوا الحرب ضد أبناء بلدهم ويأخذوا هذا الأمر في الاعتبار ويسعوا إلى تحقيق مصلحة الشعب السوري ككل في أي تفاوض أو اتفاق مستقبلي.