الوقت - تتمتع مشاريع البنية التحتية للسكك الحديدية بقوة جذب كبيرة للبلدان، ولا سيما بسبب قدرتها على ربط المدن ببعضها البعض، وفتح الفرص الاقتصادية لموانئ التصدير، وتقليل تكلفة نقل البضائع، والسماح للناس بالوصول إلى فرص العمل والتجارة. وقد ركزت القوى الكبرى التي تسعى إلى تعزيز موقعها الاقتصادي في العالم، على هذه الطرق الجذابة في السنوات الأخيرة أكثر فأكثر.
وفي هذا الصدد، وتماشيًا مع تحقيق السياسات الاستراتيجية للحكومة الإيرانية لتطوير العلاقات التجارية مع العالم، بالتعاون مع بعض دول المنطقة، تحاول إيران تحسين قدراتها في مجال السكك الحديدية حتى تتمكن من تعزيز طرق التجارة الدولية.
يعدّ ممر الشمال-الجنوب حاليًا أهم ممر قيد التنفيذ لإيران، والذي اكتسب زخمًا مقبولًا في أعقاب التطورات التي تلت الحرب في أوكرانيا، ويمكن أن يلعب تفعيله الكامل دورًا مهمًا في تعزيز مكانة إيران في شبكة التجارة العالمية.
ومع ذلك، فإن التركيز على مشروع ممر الشمال-الجنوب الكبير، لم يجعل الحكومة الإيرانية لا تفكر في تفعيل قدرات الترانزيت الأخرى في البلاد. وفي هذا الصدد، كتبت مجلة "أويل برايس" في مقال تحليلي، أن مثلث إيران - الهند - أرمينيا قيد التشکيل، وأن مثلث القوة هذا يمكن أن يكون له رسالة استراتيجية مهمة ويغير التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز.
يذكر في هذا التقرير أن المشاورات السياسية الثلاثية الأولى بين نواب وزراء خارجية إيران والهند وأرمينيا، عُقدت في أبريل 2023 في يريفان. وفي هذه المحادثات، ركزت الدول الثلاث بشكل أساسي على "القضايا الاقتصادية وقنوات الاتصال الإقليمية"، و"اتفقت الأطراف على مواصلة المشاورات في شكل ثلاثي".
وفقًا لـ "أويل برايس"، يمكن النظر إلى التعاون المتزايد بين إيران وأرمينيا والهند، كجزء من جهود طهران لاستعادة التوازن في جنوب القوقاز بعد حرب كاراباخ الثانية، وهذه المجموعة الثلاثية تختلف عن التعاون الثلاثي بين باكستان وتركيا وأذربيجان.
الهدف من الممر المقترح، الذي يمتد بموازاة ممر الشمال-الجنوب الدولي للنقل، هو ربط مومباي ببندر عباس ثم بأرمينيا ومن هناك إلى أوروبا أو روسيا. ويقال إن حوالي 250 مليار دولار من المنتجات الهندية والصينية وشرق آسيا، سيتم نقلها إلى أوروبا من هذا الممر كل عام، ومن المتوقع أن تبلغ حصة إيران في عبور البضائع حوالي 4٪.
وهذا يعني أن حصة إيران من عبور البضائع في هذا الممر ستكون 10 مليارات دولار سنويًا، وسيكون لإنشاء هذا الممر تأثير بنسبة 15٪ على الناتج المحلي الإجمالي لإيران على المدى الطويل. ولذلك، فإن إنشاء طريق العبور هذا، إلی جانب ممر الشمال-الجنوب، يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة لاقتصاد إيران المتنامي.
وعلى الرغم من أن التجربة أظهرت أن إنشاء خطوط السكك الحديدية الدولية سيستغرق وقتًا، إلا أن ظروف الإطلاق السريع لممر الخليج الفارسي-البحر الأسود أكثر سلاسةً، لأنه داخل إيران، التي تعتبر مركز الثقل لهذا الطريق، تم من قبل توفير العديد من البنى التحتية.
يعتبر ميناء تشابهار في إيران جسرًا تجاريًا مهمًا بين إيران والهند وأرمينيا، ما يوفر وصولًا مباشرًا إلى المحيط الهندي. وفي السنوات الأخيرة، من خلال الاستثمار في تشابهار، استخدم الهنود هذا الميناء لنقل البضائع إلى آسيا الوسطى وروسيا. تشابهار لديها القدرة على أن تكون بوابةً للهند للوصول إلى آسيا الوسطى والقوقاز وأوروبا، وستلعب دورًا مهمًا في هذين الممرين.
من خلال بناء طريق الخليج الفارسي-البحر الأسود، يمكن أن تصبح إيران مركزًا تجاريًا في المنطقة، وإذا كان مرتبطاً بطرق عبور أخرى، فإن إيران يمكن أن تصبح مركزًا تجاريًا في العالم.
وجورجيا، التي هي جزء من الحلقة المفقودة من ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود، لديها خطوط سكك حديدية وطرق مع أرمينيا، وستساعد كثيرًا في البناء السريع لهذا المشروع الضخم.
ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود مربح للهند
يتناسب ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود جيدًا مع خطط الهند لأنها تسعى إلى طرق إضافية إلى أوروبا، وتجاوز قناة السويس وتجنب التأثير السلبي للمواجهة بين روسيا والغرب.
وبالنظر إلى أن نقل البضائع الهندية من البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا يتطلب الكثير من الوقت والمال، تحاول سلطات نيودلهي اختيار طرق أقصر وأكثر اقتصاداً، وقد تم اختيار ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود لهذا الغرض، والذي إذا تحقق يمكن أن يسهل تجارة الهند مع الدول الأخرى.
وبسبب تنافسها مع الصين في التجارة مع الغرب، تحاول الهند الاستفادة من ممرات السكك الحديدية لتطوير تجارتها الدولية، حتى لا تتخلف عن الريادة الاقتصادية لتكسب مرتبةً عالميةً أعلى.
يمكن للممر الجديد، المكمّل لممر الشمال-الجنوب، باستثمارات هندية أن يساعد في تعزيز طرق العبور. وفي العام الماضي، استخدمت الهند طريق الشمال-الجنوب لتصدير بضائعها إلى روسيا، ويزداد هذا التعاون قوةً يومًا بعد يوم.
جهود إيران لخلق التوازن في القوقاز
في السنوات الأخيرة، لعبت إيران دورًا مهمًا في ممرات السكك الحديدية في آسيا، وبعبارة أخرى تعتبر جسرًا بين الشرق والغرب. ولذلك، فهي تحاول خلق التوازن في ممرات العبور ضد بعض الأعمال التخريبية التي تتحدى هذه الطرق.
لإيران دور في تسهيل التجارة من روسيا إلى المحيط الهندي، عن طريق ممر الشمال-الجنوب الذي تم إطلاقه العام الماضي، ومع ذلك فهي تحاول تنويع طرق السكك الحديدية، بحيث لا يحدث اضطراب في التجارة الإقليمية في حال حدوث أزمة.
وبما أن جمهورية أذربيجان قد تبنت سياسة التوتر في المنطقة في السنوات الأخيرة، وتحاول استكمال ممر "زانجيزور" المثير للجدل، والذي يقطع عملياً الحدود بين إيران وأرمينيا، لذلك، بمساعدة أرمينيا والهند، تحاول إيران جر الدول الأخرى لمشهد التطورات في القوقاز ومنع التغيير الجيوسياسي في هذه المنطقة، من خلال بناء ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود.
ولأن جزءًا من هذا الممر الجديد سيعبر حدود إيران وأرمينيا، وبالتالي بمشاركة الهند ودول أخرى بما في ذلك جورجيا وحتى الأوروبيين في هذا المشروع، سيزداد الضغط على أذربيجان لقطع خطوط السكك الحديدية في المستقبل، وستتوسع الأبعاد الدولية للقضية، وستواجه سلطات باكو تحديًا خطيرًا في تنفيذ خططها الجشعة.
في السنوات الأخيرة، أقامت الهند علاقات دفاعية واسعة مع أرمينيا، ولا تريد أن تفقد سوقها التجاري المربح في القوقاز. ووفقًا لـ أويل برايس، نظرًا للتغير في ميزان القوى في جنوب القوقاز بعد حرب كاراباخ الثانية والحرب الروسية الأوكرانية، تعتزم أرمينيا والهند أن تكونا أكثر نشاطًا في كل من ممر الشمال-الجنوب وممر الخليج الفارسي-البحر الأسود.
والقضية الأخرى هي أنه على الرغم من أن أذربيجان جزء من ممر الشمال-الجنوب، ولکن هناك احتمال أنه في المستقبل، وبسبب الخلافات السياسية مع إيران، سوف تمنع النقل عبر هذا الممر. لذلك، يمكن لإيران استخدام ممر الخليج الفارسي-البحر الأسود كضامن. لأن باكو قد تُرکت في هذا الممر الجديد، وستستبدل طهران باكو بأرمينيا وجورجيا حتى لا يكون هناك انقطاع في نقل البضائع إلى الطرق الأوروبية.
من ناحية أخرى، تخطط تركيا وأذربيجان لبناء ممراتهما المرغوبة، وخاصةً "ترانس-قزوين"، الذي يربط آسيا الوسطى بالقوقاز، لتجاوز طرق السكك الحديدية الإيرانية، وهذه الخطة مدعومة أيضًا من الصين، وبالتالي تسعى إيران إلى استخدام أدواتها وقدراتها الداخلية وبناء ممراتها الخاصة بالتعاون مع حلفائها.
تعتبر طرق العبور في إيران أكثر اقتصاداً من الخيارات المماثلة في المنطقة، وهي أكثر أمانًا بسبب الطريق البري. أيضاً، بناء المشاريع الطموحة لتركيا وأذربيجان، أي ترانس-قزوين، يستغرق وقتًا طويلًا قد يصل إلی عقود، ولكن بمساعدة أرمينيا والهند، يمكن لطهران تشغيل طرق جديدة في أقصر وقت ممكن وبتكلفة أقل.
بشكل عام، يمكن القول إن استراتيجية إيران لتطوير البنية التحتية للسكك الحديدية وزيادة التعاون التجاري مع الدول الأخرى، ستحسن مكانة إيران في التجارة العالمية، وتظهر أن السياسات الأمريكية لعزل طهران قد فشلت، وأن القوى العالمية تعوِّل على طرق عبور إيران للمضي قدمًا في خططها الكبيرة.