الوقت- تتوالى تبعات الضربة العسكرية التي وجّهتا تركيا لقاذفة الـ"سو24" الروسية، إثر تهدّيد موسكو بفرض عقوبات إقتصادية على أنقرة، كان آخرها إعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، تعليق المباحثات مع أنقرة بشأن مشروع نقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا المسمى "السيل التركي".
تركيا، وبعد أن تلقّت رسائل الرئيس بوتين الصارمة، أدركت أنه لا بد من البحث عن بديل "غير روسي" لتغطية حاجة البلاد من الطاقة، لذلك غادر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، على عجل، إلى العاصمة القطرية الدوحة وأبرم 15 اتفاقية مشتركة مع الأمير القطري تميم بن حمد ، منها إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين واتفاق لتصدير الغاز إلى أنقرة.
لا ريب في أن رحلة "السلطان" إلى الأمير كانت غازيّة بإمتياز حيث أنه لا يمكن لأردوغان البقاء مكتوف الأيدي أمام وقف تدفّق الغاز الروسي إلى بلاده التي تستهلك سنوياً نحو 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ، تستوردها من روسيا وإيران وأذربيجان، إلاّ أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو مدى قدرة إمارة قطرة الصغيرة على لعب درو الدب الروسي العملاق في خريطة الطاقة التركية.
إن " زيارة البحث عن حل لمواجهة التهديدات الروسية" هدفت، بشكل أو بآخر، لكبح جماح التهديدات الروسيّة والتلويح بالبحث عن البديل، لإجبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتنازل عن "الإعتذار التركي" الذي يُرتّب على أنقرة جملة من الإلتزامات تجاه الأزمة السورية، ولكن القيصر الروسي وبعد يوم واحد من زيارة أردوغان إلى قطر، نقل تهديداته لتركيا من الشاشات إلى أرض الواقع عبر تعليق المفاوضات الحكومية مع أنقرة فيما يتعلق بالسيل التركي الذي شكّل حلماً وردياً للرئيس أردوغان بتحويل بلاده إلى مركز إقليمي لتوزيع الطاقة عبر هذا الخط الذي سينقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود، ومنها إلى أوروبا بقدرة تمريريّة تقدّر بنحو63 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، أي أكثر بحوالي 26 % من حاجة تركيا السنوية من الغاز دون الأخذ بعين الإعتبار ما تستورده أنقرة من الدول الآخرى كإيران وأذربيجان والجزائر ونيجيريا.
آثار وتداعيات
قد يرى البعض أن توقيع أردوغان مذكرة التفاهم المبدئية طويلة الأجل بشأن شراء الشركة العامة لخطوط ونقل البترول التركية، الغاز الطبيعي المسال، من الشركة القطرية الوطنية للبترول، حلاّ بديلاً عن الغاز الروسي ، إلا أن الواقع يشي بالعكس تماما فقطر تنتج غاز مسال، وفي حال تحويله إلى غاز طبيعي ثقيل وإسالته لنقله فإن ذلك سيقلل كثيرا من كفاءته، فضلاً عدم قدرة قطر بمفردها على الحلول مكان روسيا التي توفّر لوحدها حالياً نحو100 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي اللازم للاحتياجات اليومية لتركيا، والذي يزداد خلال فصل الشتاء. ما يزيد طينة أردوغان بلّة هو التوقيت الشتوي للعقوبات الروسيّة حيث يرتفع منسوب إستخدام تركيا للغاز بسبب البرد الذي سيطفئ حميم العلاقات التي كانت توصف قبل مدّة بـ"الإستراتيجيّة"، ويطفئ معها العديد من الأحلام الأردوغانية على الصعيدين الإقتصادي والسياسي.
هذا في الشق التركي الداخلي، إلا أنه على الصعيد الخارجي، أو بالآحرى أحلام أردوغان بتحويل بلاده إلى مركز لتصدير الطاقة نحو أوروبا، فلا يمكن لقطر أن تحتل الدور الروسي بأي شكل من الأشكال، ولعل هذا الأمر بالتحديد سيكون القشّة التي تقصم ظهر أردوغان وتجبره على الإعتذار للجانب الروسي في المرحلة المقبلة.
لم تكن الإجراءات أو العقوبات الروسيّة قبل "السيل التركي" ذات أهمية إستراتيجية لأردوغان، ففرض موسكو حظرا على استيراد عدد من المنتجات الزراعية والمواد الغذائية من تركيا، وتعليق عمل اللجنة الحكومية الروسية التركية المختصة بالتجارة والتعاون الاقتصادي بين البلدين، وفرض تأشيرات دخول على الرعايا الأتراك، وحظر استخدام الأيدي العاملة التركية في روسيا، بالإضافة إلى وقف رحلات الطيران غير المنتظمة "تشارتر" من وإلى تركيا (المفترض أن تدخل هذه الإجراءات حيز التنفيذ ابتداء من مطلع العام القادم)، رغم أهميتها لا يمكن مقايستها بملف الطاقة، إلا أن الوتيرة التصاعدية للعقوبات التي ترافقت مع تصعيد إعلامي غير مسبوق بين البلدين، يعني وصول أردوغان لعنق الزجاجة.
ولكن، رغم كافّة الإجراءات السياسيّة المتهوّرة للرئيس أردوغان، كحال إسقاط الطائرة الروسيّة، إلا أنه يتعاطى بحذر شديد مع الملف الإقتصادي الذي سجّل من خلاله نجاحات عدّة لن يرضى بخسارتها، لذلك من المتوقّع أن يلجئ الرئيس التركي، ورغم كبريائه، إلى الإعتذار من الرئيس الروسي كسبيل وحيد للخروج من عنق الزجاجة. لكن لا نستغرب العكس لأن سياسة "صفر مشاكل" التركية، باتت اليوم "صفر حلول" بإمتياز.