الوقت - لأكثر من نصف قرن، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى على المسرح العالمي، نلاحظ دورها ووجودها في معظم الأزمات الدولية الكبرى.
لعب الدور هذا المثير للأزمات يتضمن مجموعةً متنوعةً من الوظائف: من الحروب الكبرى والمدمرة في فيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن، إلى الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا ضد الحكومات الشعبية المستقلة، دعم قمع الحركات الشعبية في جزء كبير من الحكومات الديكتاتورية الغربية، مثل الثورات في إيران والبحرين ومصر وإلخ، إثارة الاضطرابات والتدخل في الوضع السياسي والاجتماعي للعالم، وكذلك تصميم الثورات الملونة في السنوات الأخيرة في أوروبا الشرقية، وحتى الأعمال غير الإنسانية تمامًا مثل إنشاء جماعات إرهابية تكفيرية، أو دعم أنظمة الفصل العنصري مثل جنوب إفريقيا والکيان الصهيوني.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، لماذا يمكن تتبع وجود الحكومة الأمريكية ودورها في معظم الأزمات الدولية؟ وما هي العلاقة بين الموقع الاقتصادي والسياسي العالمي للولايات المتحدة وظهور الأزمات الدولية وسياسات البيت الأبيض على المستوى الدولي؟
الأزمات الإقليمية والوجود العسكري الأمريكي في العالم
اتبعت حكومة الولايات المتحدة سياسةً مستمرةً لتوسيع وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولديها الآن قواعد عسكرية أمريكية في معظم أنحاء العالم، وتضفي الشرعية علی هذا الوجود العسكري تحت عناوين مختلفة، مثل حماية حرية الملاحة أو الدفاع عن الحلفاء ومحاربة الإرهاب.
من ناحية أخرى، لم يقتصر الجهد المبذول لتعزيز الوجود العسكري على بناء قواعد عسكرية، بل عززت هذه الدولة عملياً توسعها العسكري في العالم، من خلال شن حروب مختلفة أو تحريك الناتو نحو الشرق.
في هذه الأثناء، فإن القضية الحيوية بالنسبة للبيت الأبيض في إعطاء الشرعية المحلية والدولية للسعي إلى الوجود العسكري حول العالم، هي اعتبار هذا السلوك التوسعي ضرورياً على الرغم من معارضة الرأي العام المحلي والدولي، والحاجة إلى وجود مراكز الأزمات في جميع أنحاء العالم.
إن وجود أزمات إقليمية محتملة أمر لا مفر منه، لكن مراقبة نهج الحكومة الأمريكية كقوة تدخل دولية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، تظهر أن دور واشنطن كان يعتمد إلى حد كبير على استغلال الأوضاع المتأزمة، للدفع قدماً بتوسيع وجودها العسكري والسيطرة على المناطق الجيوستراتيجية، في منافسة مع القوى الأخرى، بحيث أدى التدخل الأمريكي إلى تفاقم الأزمات فحسب.
وفي هذا الصدد، يمكن ذكر العديد من الأمثلة من فترات مختلفة، مثل: حرب فيتنام إلى الأزمة النووية لكوريا الشمالية، وقضية تايوان في شرق آسيا، والحرب في أفغانستان (2001) والعراق (2003)، والأزمة في سوريا وليبيا واليمن في غرب آسيا وأفريقيا، ومؤخراً هناك مثال جديد على لعب هذا الدور المدمر في أزمة أوكرانيا في أوروبا الشرقية.
فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا التي أدت الآن إلى مأساة حرب في هذه الدولة الواقعة في شرق أوروبا، تنتهج الولايات المتحدة سياسة توسيع الناتو شرقًا من خلال "روسيا فوبيا"، وتسعى إلى تعزيز قواعدها العسكرية بالقرب من حدود روسيا وإقامة وجود أمني في جميع أنحاء هذا البلد.
وحتى على مر السنين الماضية، تم نشر الأسلحة النووية والمعدات العسكرية الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا، وهذا لم يؤد إلى السلام في المنطقة فحسب، بل أدى أيضًا إلى توسيع الفجوة بين روسيا والأوروبيين، وبالتأكيد يجب أن يُنظر إلى بداية الحرب في أوكرانيا على أنها نتيجة لسياسات واشنطن التدخلية والمثيرة للأزمات.
الأزمات الدولية هي القوة الدافعة للدورة الرأسمالية
لكن بالإضافة إلى القضايا الجيوسياسية والجيواستراتيجية، فإن القضية المهمة للغاية في فهم سبب کون النظام السياسي الأمريكي سبباً في خلق الأزمات، هي فهم كيفية ارتباط البنية التحتية الاقتصادية للولايات المتحدة بقضية الحرب والأزمات وانعدام الأمن في العالم.
أولاً، الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمة الرأسمالية العالمية، تدين بالكثير من دخلها الاقتصادي لبيع الأسلحة العسكرية إلى دول أخرى. ونتيجةً لذلك، لمنع إفلاس شركات الأسلحة، تم تحديد السياسات الداخلية والخارجية لحكومة الولايات المتحدة من خلال التركيز على إنشاء محاور أزمات عالمية.
تقدم الولايات المتحدة أسلحةً وخدمات عسكرية بمليارات الدولارات لحلفائها في جميع أنحاء العالم كل عام. وحسب التقارير الرسمية الصادرة عن الحكومة الأمريكية، بلغت مبيعات الأسلحة العسكرية الأمريكية لدول أجنبية 175 مليار دولار في عام 2020.
وإضافة إلى الإيرادات الاقتصادية، تعمل مبيعات الأسلحة هذه أيضًا على توسيع نفوذ الولايات المتحدة على المستوى الدولي.
من ناحية أخرى، تتحرك عجلة الرأسمالية الأمريكية إلى الأمام من خلال القوة الدافعة للأزمات الدولية. كما في أحد الأمثلة، استفادت الشرکات الأمريكية العملاقة في مجال النفط بشكل كبير من التعاون مع دول المنطقة، بسبب وجودهم العسكري في الخليج الفارسي.
الآن أيضًا، في أزمة أوكرانيا، تعود إحدى مصالح أمريكا إلى مبيعات الأسلحة إلى أوروبا ووجودها في سوق الطاقة الأوروبية، عن طريق إخراج روسيا من هذه الساحة.
خلق الأزمات، أداة هيمنة الثقافة الأمريكية(الغربية)
من بعد آخر، من الضروري الانتباه إلى أن الوجه الآخر لهيمنة الثقافة الغربية، والذي يتجلى في مواضيع مثل انتشار الحرية والديمقراطية، والتقدم الاقتصادي، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب وما إلى ذلك، هو الحاجة إلی وجود الأزمات في المجالات الحضارية للثقافات غير الغربية.
في الواقع، تتطلب الهيمنة الثقافية، كطريقة منخفضة التكلفة وأقل مقاومةً للهيمنة السياسية للغرب والولايات المتحدة، تغيير القيم ونزع هوية الثقافات المنافسة، بحيث يتزايد تدمير الثقافة الذاتية في المجتمعات غير الغربية، ويتوافر الأساس لقبول الثقافة والقيم الغربية.
وقد استمر هذا الأمر على مدى عقود من قبل الغربيين، وخاصةً حكومة الولايات المتحدة، في المجتمعات الآسيوية والأفريقية، مستفيدين من قوة وسائل الإعلام والقوة الاقتصادية والمعرفة التكنولوجية.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك في العقود الأخيرة هي قضية "إسلام فوبيا"، وبموجبها فإن أفضل طريقة للتعامل مع الثقافة الإسلامية(باعتبارها العدو الرئيسي للثقافة الاستهلاكية الغربية بعد هزيمة الشيوعية) هي خلق أزمات داخلية في مجال الحضارة الإسلامية، واستخدام هذه الأزمات لنشر الإسلاموفوبيا والترويج لها.
ويمكن رؤية جذور هذه السياسة في حالات مثل دور المخابرات الأمريكية والصهاينة في إنشاء مجموعات وهابية تكفيرية مثل القاعدة وداعش في الجغرافيا الإسلامية، حيث تسبَّب تشكيل هذه المجموعات في أزمات مختلفة للعديد من البلدان في منطقة غرب آسيا وأفريقيا، وأثَّر على السلام والاستقرار في المنطقة.