الوقت- أثبتت التفجيرات الانتحارية التي وقعت في عام 2016 وانقلاب 15 يوليو الفاشل، اللذان كانا عبارة عن مخططات أمريكية بطبيعتهما، للحكومة التركية أن واشنطن لا يمكن أن تكون حليفًا موثوقًا لأنقرة. وفي هذا المنعطف التاريخي كانت العلاقات بين تركيا والحكومة الروسية في ذروة التوترات بسبب أزمة الحرب الأهلية السورية وإسقاط الجيش التركي لطائرة حربية روسية على الحدود السورية. لكن عزلة أنقرة على الساحة الدولية، والتي كانت نتيجة تدخلها في دمشق وتأثير الأزمة السورية، دفعت تركيا إلى إصلاح علاقاتها مع روسيا. وكانت بداية عملية مفاوضات "آستانا" بين إيران وتركيا وروسيا في الأصل رمزا للتعاون بين الدول الثلاث. والآن، وفي ظل العلاقات بين تركيا وروسيا، نشهد ليس فقط تحسنًا في العلاقات بين الجانبان ولكن أيضًا تطورها. ولا تقتصر منصة الاتصال هذه على السياسة بل امتدت إلى مجال الأسلحة والطاقة وحتى السياحة.
أسباب تعاون "أردوغان وبوتين"
ولكن رداً على سؤال لماذا تولي تركيا أهمية لتعميق العلاقات مع روسيا؟ في الواقع، على الرغم من أن تركيا أرادت علاقات أوثق مع الولايات المتحدة، إلا أن دعم واشنطن المالي والعسكري لحزب العمال الكردستاني والمعارضة الكردية التركية، اللذين يمثل نضالهما الخط الأحمر للحكومة والمجتمع التركي، خيب آمال أنقرة بتطور العلاقات مع الحكومة الأمريكية. وعلى الرغم من وجود خط اتصال أفضل بين أنقرة وواشنطن خلال رئاسة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" مقارنةً بالإدارة الديمقراطية الحالية، التي خيبت آمال إدارة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وأثبت أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون حليف موثوق به لأنقرة. ولقد سعت الحكومات الديمقراطية في الولايات المتحدة إلى تقويض حزب العدالة والتنمية التركي في كل مرة تدخل فيها الساحة السياسية. ويمكن تفسير جهود الولايات المتحدة وراء الكواليس لإنهاء انقلاب 2016 أو تصريحات "بايدن" العام الماضي لدعم المعارضة التركية في سياق معارضة واشنطن للحكومة التركية الحالية؛ ويبدو الأمر كما لو أن زيارة "أردوغان" الأخيرة إلى نيويورك، حيث لم يلتق بشكل غير متوقع مع الرئيس الأمريكي، أو التهديدات الأمريكية الأخيرة بمواصلة فرض عقوبات على تركيا بموجب قانون "كاتسا"، فقد أظهرت هذه القضايا أن التوترات بين الولايات المتحدة وتركيا ستستمر. ولهذا السبب تعتبر تركيا روسيا حليفًا أكثر موثوقية في الشؤون الدولية، على الرغم من كل خلافاتهما.
وحتى شراء أنظمة "إس -400" من موسكو، التي تم توقيع عقدها في عام 2017 ووصلت أجزاؤها إلى أنقرة في عام 2019، يمكن تحليلها كرمز للتعاون بين موسكو وأنقرة. حيث كان لشراء تركيا لهذه الأنظمة كعضو في الناتو رسائل سياسية لأوروبا والولايات المتحدة. وفي غضون ذلك، يعتبر إصرار "أردوغان" الأخير على الاستمرار في شراء الأسلحة العسكرية والتعاون مع حكومة "فلاديمير بوتين"، جزءًا من سياسة أنقرة الاستراتيجية، حيث يدرك الحزب الحاكم في تركيا جيدًا أن العلاقات مع روسيا هي أفضل طريقة لفرض مطالبه على الحكومة الأمريكية.
العلاقات التركية الروسية في مجال الطاقة والاقتصاد
لكن بصرف النظر عن ذلك، تتمتع تركيا أيضًا بتعاون جيد جدًا مع روسيا في مجال الطاقة والاقتصاد والسياحة، ويمكن دراسة أسباب ذلك في العديد من القضايا. نظرًا لاحتياجاتها من الطاقة، ترى تركيا أنه من الضروري تطوير العلاقات مع روسيا. ولروسيا الدور الأهم في إمداد تركيا بالطاقة، وفي هذا الصدد، يمكننا الرجوع إلى إحصائيات صادرات الغاز في السنوات الأخيرة. وعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2020، كانت تركيا أكبر مستورد للغاز الطبيعي من روسيا بكمية بلغت 2 مليار و 948 مليون متر مكعب.
ولقد وضعت كل من تركيا وروسيا أهدافًا تجارية بقيمة 100 مليار دولار؛ ولقد وصل حجم الاستثمار التركي في روسيا 1.5 مليار دولار وبلغ الاستثمار الروسي في تركيا 6.5 مليارات دولار، وهو ما استطاع خفض معدل البطالة في تركيا. لكن أهم مجال في علاقات تركيا مع روسيا هو السياحة. والحقيقة هي أن الحياة الاقتصادية لتركيا تعتمد على صناعة السياحة فيها. وهذا هو السبب في أن الحكومة التركية تعمل على تطوير هذا لسنوات عديدة، وهذا الامر هو الذي اجتذب معظم السياح من روسيا. وباستثناء عام 2020، عندما تسببت جائحة كورونا بانخفاض معدل السياحة في تركيا، سافر أكثر من ستة ملايين سائح روسي في المتوسط السنوات الماضية إلى تركيا. ونتيجة لذلك، لن تتخلى تركيا عن علاقاتها مع روسيا حتى تجد بديلاً لموسكو في مجالات السياحة والطاقة والتجارة.
إدلب.. نقطة عمياء في العلاقات بين أنقرة وموسكو
تتمتع تركيا وروسيا بقناة دبلوماسية نشطة، على الرغم من الخلافات حول القضايا الإقليمية، وخاصة شرق المتوسط وليبيا وسوريا. لكن الخلاف الأهم بين البلدين هو قضية إدلب. لكن مع كل اللقاءات والمفاوضات، لم يتمكنوا بعد من تبني سياسة بناءة في حل هذه القضية. ويمكن دراسة قضية إدلب المعلقة لعدة أسباب: أولاً وقبل كل شيء، فإن تطهير إدلب من قذارة الإرهابيين يمكن أن يوفر الظروف لسوريا للتقدم في مناطق حدودية أخرى، خاصة شرق الفرات، وهذا سوف يساعد على وحدة الأراضي السورية، كما ستكون مفيدة لأمن حدود تركيا. ولكن الوجود التركي في سوريا، رغم مطالب حكومة دمشق وتورط الولايات المتحدة مع الإرهابيين في إدلب، حوّل المنطقة إلى منطقة جغرافية غير آمنة. وتدرك الولايات المتحدة جيدًا أن حل قضية إدلب يعني حل الخلافات بين تركيا وروسيا وتخفيف التوترات بين أنقرة ودمشق. ولهذا لا تريد الولايات المتحدة تطوير علاقات تركيا كحليف مع روسيا أو حتى الحكومة السورية. وحتى لغة تهديدات وعقوبات واشنطن على منظومة "إس 400" هي مجرد ذريعة، والقلق الرئيسي للولايات المتحدة هو منع تطور العلاقات الروسية التركية.
لكن سبب تعقيد قضية إدلب ليس فقط متعلقًا بالحكومة الأمريكية، بل إن أيديولوجية حزب العدالة والتنمية تتعلق أيضًا بموضوع سوريا. ولقد كتبت الصحيفة التركية اليومية في مقال عن قضية إدلب، "أيديولوجية حزب العدالة والتنمية هي أن أمن أنقرة يبدأ في عفرين ويبدأ أمن عفرين في إدلب". بل إن البعض قد وسع هذا الوهم الأمني ليشمل حلب. وتتمثل سياسة أنقرة الواضحة في إنشاء منطقة تحت حماية الجيش السوري الحر المتمركز في إدلب. وأن أنقرة قامت بتعيين حاكم في المنطقة، وقامت بإنشاء كلية وفرضت استخدام الليرة (العملة التركية) في المناطق الحدودية مع سوريا. وهنا يمكن القول إن إنشاء منطقة تحت حماية جماعة تُدعى الجيش السوري الحر، على الرغم من أن ذلك قد يكون في مصلحة "أردوغان"، لكنه في الواقع لن يكون في مصلحة تركيا.
في النهاية ينبغي القول إن على تركيا أن تدرس بضع النقاط من أجل استمرار العلاقات مع روسيا والتوصل إلى اتفاق نهائي بشأن قضية إدلب، أهمها:
1 ) استمرار التعاون مع روسيا الذي يعد عقبة مهمة لعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة ودورها التخريبي في سوريا.
2 ) عدم عرقلة عمليات الجيش السوري ضد الإرهابيين الذين يمارسون سيادتهم على بعض الأراضي السورية.
3 ) إجراء بعض الاتصالات مع السلطات السورية لحل القضايا الحدودية بين البلدين، لأن تصعيد التوترات مع سوريا سيؤثر بالتأكيد على العلاقات بين تركيا وروسيا.