الوقت- لطالما سمعنا عن العنصرية المتفشية ضمن المجتمع الأمريكي وعن انتشار الكراهية والعداء بين أبناء هذا المجتمع، لدرجة أننا اعتدنا سماع أنباء تتحدث عن مقتل "إنسان أسود على يد شرطي أبيض" أو إخراج طالبة من مدرستها لأن لونها لم يعجب المعلم، لكن لا أعتقد أن أحداً منا يمكنه تصديق أن تصل العنصرية ضمن هذا البلد إلى صاحب المنصب الأرفع فيه، ليتجرد من كل الأعراف الدبلوماسية وليطالع العالم أجمع بتصريحات عنصرية تفتقد لأيٍّ من معايير الإنسانية والأخلاق قسَّم من خلالها العالم إلى متحضر ومتخلف. نعم لقد فعلها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فخلال مؤتمر صحفي جمعه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين والتي عقدت يوم الأحد في مدينة أنطاليا التركية، قال الرئيس الأمريكي في معرض تعليقه على الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية مؤخراً: "إن قتل الأبرياء استناداً إلى إيديولوجية ملتوية... هو هجوم على العالم المتحضر."
دلالات ومخاطر هذا التصريح:
تصريحات أوباما هذه إن كانت تُدلل على شيء فإنها تُدلل على الاستكبار والعلو الذي تتحلى به الإدارة الأمريكية خلال تعاملها مع دول العالم، فالعالم عند أوباما وإدارته مقسمٌ إلى متحضر ومتخلف، في الجزء "المتحضر" من هذا العالم يُحرَّم قتل الإنسان، يُحارب الإرهاب وتدان جرائمه على الفور، أما في القسم "المتخلف" فأرواح الأبرياء ما هي إلا أرقامٌ تتاجر بها إدارة أوباما وغيرها من الدول "المتحضرة"، فتمسي أرواح الأبرياء في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا وأفغانستان وسيلةً لزيادة نفوذها وممارسة ضغوطها على دول المنطقة، فيلتزم معظم هذه الدول "المتحضرة" الصمت حيال جرائم المجموعات الإرهابية وممارساتها في المنطقة، لا بل تصل الوقاحة ببعض هذه الدول إلى إلقاء اللوم على المقتول وتحميله ذنب مقتله.
عالم أوباما "المتحضر" وسياسة تصنيع ودعم الإرهاب:
تعترف الإدارة الأمريكية نفسها بأنها هي من قامت وبمساعدة جهازي المخابرات الباكستانية والسعودية بإيجاد تنظيم القاعدة الإرهابي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، من أجل محاربة الاتحاد السوفيتي والحد من نفوذه في هذا البلد، وما هي إلا سنوات معدودة حتى كبر الغول المُنتَج أمريكياً وأنجب شياطيناً أكثر وحشية وهمجية منه، فكانت جبهة النصرة الإرهابية وكان تنظيم داعش الإرهابي. أرواح آلاف الأبرياء الذين قتلتهم القاعدة وأبناؤها داعش والنصرة في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان لم تستدع من رؤساء العالم "المتحضر" إدانة حقيقية وعملاً جاداً لوضع حدٍ لإرهاب هذه الجماعات، وكيف تفعل ذلك وهي المستفيد الأول من ممارسات هذه الجماعات الإرهابية في بلدان المنطقة. وقد يسأل سائل ما هو الدليل على وقوف بعض الدول الغربية وخصوصاً الإدارة الأمريكية خلف نشوء وممارسات التنظيمات الإرهابية في المنطقة وهي التي شكلت تحالفاً لمحاربة الإرهاب يعمل على قصف مناطق المسلحين في العراق وسوريا منذ أكثر من عام؟ للإجابة على هذا السؤال يمكننا الالتفات إلى النقاط التالية:
1- تستمر الإدارة الأمريكية ومعظم الدول الأوروبية منذ بدء الأزمة السورية قبل أكثر من أربعة أعوام في دعم التنظيمات الإرهابية المسلحة وتزويدها بالمال والعتاد والمعلومات، ولم تكتف الإدارة الأمريكية بهذا بل عمدت إلى إنشاء معسكرات لتدريب عناصر هؤلاء الجماعات وإرسالهم فور إنهائهم تدريباتهم إلى داخل الأراضي السورية ليمارسوا في حق الشعب السوري ما يحلوا لهم من جرائم وانتهاكات، آخر التطورات التي شهدها هذا الملف كان إعلان واشنطن على لسان أحد مسؤوليها قيامها السبت الماضي بتزويد مجموعات مسلحة من المعارضة السورية بدفعة جديدة من الذخيرة.
2- لم تحقق غارات دول التحالف الغربي في العراق وسوريا نتائج تذكر، بل وعلى خلاف التوقعات قام تنظيما داعش والنصرة الإرهابيين ببسط سيطرتهما على مزيد من الأراضي السورية والعراقية، خصوصاً في ظل استهداف طائرات هذا التحالف مقرات وتجمعات الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي في العراق أكثر من مرة، الأمر الذي يؤكد عدم جدية دول التحالف في محاربة الإرهاب، واستغلالها ممارسات التنظيمات الإرهابية لتحقيق مصالحها وفرض شروطها على دول المنطقة، ويكفي لإثبات ذلك مقارنة الغارات التي نفذتها دول التحالف مع نظيرتها التي قامت بها روسيا منذ أواخر شهر أيلول الماضي في سوريا والتي كانت على درجة من الفعالية مكنت الجيش السوري من استعادة الكثير من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيمات الإرهابية.
3- إلقاء طائرات التحالف الذخيرة لتنظيم داعش الإرهابي في أكثر من منطقة في العراق بدعوى الخطأ، خصوصاً في تلك المناطق التي كانت تعاني فيها جماعات التنظيم الإرهابي من الحصار ونقص الذخيرة، الأمر الذي يعكس تنسيق الإدارة الأمريكية مع قيادات هذا التنظيم وعملها على تقديم يد العون له.
4- تقديم التسهيلات والدعم المالي للتنظيمات الإرهابية خصوصاً تنظيم داعش الإرهابي في كل من سوريا والعراق حيث تعمل الدول الغربية بالتعاون مع النظام التركي على تسهيل بيع تنظيم داعش للنفط والآثار السورية والعراقية، وما كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده يوم الاثنين في تركيا والذي تحدث خلاله عن إظهار روسيا أمثلة لتمويل الإرهابيين في سوريا من قبل أشخاص ينتمون إلى أكثر من 40 دولة بما فيها دول مجموعة العشرين إلا دليلٌ واضح على ما سبق لنا ذكره.
5- استمرار الإدارة الأمريكية وبقية الدول الغربية في دعم الأنظمة الخليجية وعلى رأسها النظام السعودي والتي تعد البيئة الحاضنة والمدرسة الفكرية التي عملت على تخريج هؤلاء الإرهابيين التكفيريين.
6- دعم الإدارة الأمريكية للنظام التركي "العضو في حلف الناتو" والذي عملت مخابراته على تسهيل وصول آلاف الإرهابيين من مختلف أنحاء العالم إلى الداخل السوري عبر الحدود التركية السورية والتحاقهم بالتنظيمات الإرهابية المسلحة سواء جبهة النصرة أم تنظيم داعش.
7- تناقضٌ وخداعٌ وكذب: يلاحظ المراقب لردود الفعل الغربية على جرائم التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم تناقضاً واضحاً يعكس تورط هذه الأنظمة في دعم وتسهيل عمل هذه المنظمات الإرهابية، ففي الوقت الذي لاقت الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش في فرنسا تنديد معظم دول العالم، لم تنبس دول العالم "المتحضر" ببنت شفة إزاء التفجيرين الإرهابيين الذين نفذهما نفس التنظيم الإرهابي في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، ولم نسمع بإدانات أروبية وأمريكية لمقتل أكثر من 2000 شاب عراقي على يد هذا التنظيم الإرهابي فيما عرف بمجزرة سبايكر.