الوقت - في الأسابيع الأخيرة، كان العراق مقصدًا للعديد من الزيارات الدبلوماسية، ما يدل على أهميته العالية ومكانته في التطورات الإقليمية.
إن التنافس بين القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في العراق حقيقة واضحة في مجال التطورات في هذا البلد، والتي تهدد أحيانًا المصالح الوطنية للعراق.
في غضون ذلك، کانت العلاقات مع السعودية موضوعاً مهماً للخلاف بين الجماعات العراقية في الأشهر الأخيرة، بسبب جهود هذا البلد للتقارب مع العراق والتأثير على التطورات فيه.
وقد أعرب الكثيرون عن قلقهم من ذلك، بالنظر إلى السجل الواضح للسعوديين الذين لعبوا دورًا مدمرًا في تطورات العراق الماضية، في دعم انعدام الأمن والإرهاب وعدم الاستقرار، وكذلك نمط السعودية في استخدام العلاقات الاقتصادية لفرض وجهات نظرها على الدول الشريكة.
والآن أيضاً، فإن منح السعوديين مزيدًا من المجال والفرصة لتعزيز موطئ قدمهم تحت ذريعة تحسين الوضع الاقتصادي، يهدد في الواقع استقلال العراق ومصالحه الوطنية الكلية.
وفي هذا الصدد، أفادت وسائل الإعلام أمس بإلغاء زيارة مقررة سلفاً لرئيس الوزراء اللبناني حسان دياب إلى العراق. ويقال إن الموضوع الرئيس للزيارة کان مناقشة التعاون الاقتصادي بين الجانبين، وخاصةً بعد أقل من عشرة أيام من توقيع الاتفاقية الأولية للنفط وقبل رفع الحصار عن لبنان.
وبحسب صحيفة الأخبار اللبنانية، فإن سبب إلغاء الزيارة هو طلب الجانب العراقي مع ذكر أسباب داخلية، لكن في الواقع فإن العامل الأساسي في اتخاذ هذا القرار هو ممارسة ضغوط خارجية على حكومة الكاظمي، ووفق هذه الصحيفة اللبنانية المعروفة، فإن بصمات الجهات الداخلية والخارجية التي تمنع تشكيل الحكومة في لبنان موجودة وراء هذا القرار.
كانت السعودية والتيارات المقربة منها، ولا سيما تيار 14 آذار بقيادة سعد الحريري في التطورات اللبنانية، أهم عقبة أمام تشكيل الحكومة اللبنانية منذ أكثر من عام، وهي تری الآن في زيارة حسان دياب للعراق تهديدًا لخططها في لبنان.
في الأشهر الأخيرة، شدَّد السعوديون مرارًا وتكرارًا على ضرورة عدم مشاركة حزب الله في الحكومة اللبنانية المستقبلية، ما يعني تحركًا واضحًا لإفشال جميع المبادرات لإنهاء الأزمة السياسية في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت.
في غضون ذلك، ترى الرياض والحريري أن الحل في المضي قدماً بأهدافهما هو إفشال جهود حكومة تصريف الأعمال في حل المشاكل الاقتصادية الوخيمة في لبنان هذه الأيام وتصاعد الأزمة الاقتصادية، وذلك لإقناع الرأي العام بأن السبيل الوحيد لإنقاذ البلد هو تشكيل حكومة بشروط الحريري.
ووفق صحيفة الأخبار، كان من المقرر أن يتوجه وفد لبناني برئاسة دياب يرافقه وزراء الزراعة والصناعة والصحة والسياحة والطاقة إلى العراق، بهدف توقيع اتفاق مبدئي للوصول إلى 500 ألف طن من النفط مقابل خدمات صحية وطبية. کما من المقرر زيادة هذه الكمية من النفط إلى مليوني طن في المرحلة المقبلة، حتى تنتهي اللجان المشتركة من الاتفاق النهائي.
وکان يمكن لهذا الوفد استخدام زيارته هذه لاستكشاف فرص التعاون في مجالات أخرى مع الجانب العراقي، وتوسيع اتفاقية التعاون. وهذا أحد البدائل وحتى الخيار الرئيس لتوسيع شبكة العلاقات الدبلوماسية والتجارية اللبنانية، وحل جزء من أزمة الكهرباء وتقليص نقص الدولار في مصرف لبنان.
من المؤكد أن الاتفاقية الأخيرة بين البلدين، کانت ستحقق منافع متبادلة لكلا البلدين في الأزمات. إذ يعاني العراق الغني بالنفط، والذي شهد زيادةً في حالات الإصابة بمرض كوفيد 19 في الأسابيع الأخيرة، من نقص مزمن في الأدوية والرعاية الطبية، كما أن عقودًا من الحرب وانعدام الأمن وضعف الاستثمار جعلت مستشفيات هذا البلد في حالة سيئة.
هذا في حين أن لبنان کان يُطلق عليه في الماضي اسم "مستشفى العالم العربي" بمرافقه الخاصة المتطورة والأطباء المدربين في أوروبا والولايات المتحدة. لكن مئات الأطباء يفرون الآن من الأزمات السياسية والاقتصادية في هذا البلد، وحتى الأدوية الأساسية غير متوافرة.
کما كان انقطاع التيار الكهربائي شائعًا في لبنان منذ عقود، لكن وزير الطاقة اللبناني "ريمون غجر" حذر في آذار من أن لبنان سيكون في "ظلام دامس" بحلول نهاية الشهر، إذا لم يتم توفير المال لشراء الوقود لمحطات الطاقة.
وفي هذه الظروف، من الواضح أن إلغاء الاتفاق مع العراق هو في الغالب لمصلحة الحريري والسعودية، ويضر بمصالح الشعبين اللبناني والعراقي.
لقد عانى العراقيون من عدم الاستقرار في المنطقة أكثر من أي بلد آخر، كما ثبت للعراقيين ترابط نظامهم الأمني مع جيرانههم، ولا سيما في مواجهة الإرهاب والحركة التكفيرية- الوهابية المدعومة سعوديًا، من خلال التجربة المؤسفة لظهور داعش نتيجة الحرب في سوريا.
کذلك، تكبد العراق مليارات الدولارات نتيجة عدم الاستقرار في المنطقة، وما زال ينظر إلى جغرافية الأزمة السورية على أنها مصدر تهديد. وفي الوقت نفسه، فإن المشاكل الاقتصادية في لبنان لها تأثير لا يمكن إنكاره على الوضع في سوريا.
حيث فقدت الليرة السورية ما يقرب من نصف قيمتها بين تشرين الثاني(نوفمبر) 2019 وكانون الثاني(يناير) 2020، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى بدء الأزمة المالية اللبنانية وإقرار قانون عقوبات قيصر الذي فرضه البيت الأبيض على دمشق.
بيروت هي مركز مالي وتجاري لسوريا. ولبنان أيضاً سوق رئيس للصادرات السورية. إضافة إلى ذلك، لدى العديد من السوريين ودائع مصرفية في لبنان. وقد فقدت هذه الودائع قيمتها، عندما بدأت البنوك اللبنانية بفرض القيود وبدأت الليرة اللبنانية في الانخفاض.
إن التوقف المفاجئ للأموال من لبنان قطع شريانًا ماليًا مهمًا لدمشق، والذي تفاقم بسبب أنباء فرض واشنطن عقوبات جديدة على سوريا. کما أن الأزمة الاقتصادية في سوريا تؤخر بدورها إمكانية إنهاء الأزمة في البلاد وتسهيل عودة اللاجئين، وبعضهم موجودون في العراق.
وهذا الأمر سيلقي بظلاله على عدم الاستقرار في سوريا، بحيث تكون الخطط الخارجية لإحياء داعش في العراق من خلال إرسال الإرهابيين خارج سوريا في ظروف انعدام الأمن وعدم الاستقرار، أكثر قابليةً للتحقيق.
وهکذا يمكن الاستنتاج بأنه بينما لم تتجاوز الوعود السعودية بالمساعدات الاقتصادية والاستثمارات في العراق حدود الكلام، إلا أن التدخل السعودي المخرب في الشؤون الداخلية للعراق ووضع الشروط للحكومة العراقية آخذ في الازدياد، وهذا ما يعزز وجهة نظر منتقدي حكومة الكاظمي عشية الانتخابات النيابية المقبلة.