الوقت- في تطور سياسي وأمني بارز، وجّهت "إسرائيل" رسالة واضحة إلى عدد من الأطراف الفاعلة في المشهد السوري، من بينهم زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، المعروف بـ"أبو محمد الجولاني"، شددت فيها على ضرورة "نزع السلاح الكامل" في مناطق الجنوب السوري، من دمشق وصولاً إلى القنيطرة ودرعا والسويداء.
وتشير هذه الخطوة إلى مسعى إسرائيلي لفرض معادلة أمنية جديدة تتجاوز المفهوم التقليدي للحدود، عبر ترتيبات ميدانية طويلة الأمد تضمن بقاء الجنوب السوري منطقة خالية من أي تهديد عسكري.
الخلفية الميدانية: توتر متصاعد في الجنوب
شهد الجنوب السوري في الأشهر الأخيرة تحركات ميدانية متسارعة من قبل فصائل محلية وقوى متعددة النفوذ، في ظل محاولات لإعادة ترتيب السيطرة على بعض المناطق، بالتوازي مع عودة نشاط جماعات مسلحة كانت قد اختفت أو خف حضورها لفترات طويلة.
تأتي هذه التطورات في سياق سياسي متغير، حيث برزت شخصيات وقيادات جديدة في المشهد السوري، وسط محاولات من بعض الفصائل المسلحة، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، لإعادة تقديم نفسها ضمن ترتيبات أمنية محتملة بالتفاهم مع أطراف رسمية، في إطار ما يوصف أحياناً بـ"إعادة إنتاج الصراع" أو البحث عن صيغة تهدئة بديلة للوضع القائم.
مضمون الرسالة الإسرائيلية: منطقة خالية من القوات والسلاح
تتضمن الرسالة الإسرائيلية – حسب ما نقلته مصادر متعددة – عدداً من الشروط والرسائل الحاسمة، أبرزها:
1- فرض نزع السلاح الكامل على الجنوب السوري، بما يشمل المدن والبلدات في محافظات درعا، القنيطرة، والسويداء.
2- منع دخول أي فصيل مسلح أو قوات نظامية إلى هذه المناطق، بما في ذلك الجماعات التي تسعى للتموضع عبر تسويات محلية.
3- رفض مطلق لوجود هيئة تحرير الشام أو امتدادها التنظيمي، سواء تحت مسميات أمنية أو مدنية.
4- استعداد "إسرائيل" للتحرك الميداني والعسكري المباشر في حال تم رصد أي خرق لهذه الاشتراطات.
جنوب سوريا: منطقة تماس شديدة الحساسية
يشكّل الجنوب السوري منطقة استراتيجية شديدة الحساسية من الناحية الأمنية بالنسبة لـ"إسرائيل"، نظراً لقربه المباشر من الجولان المحتل، ولكونه يشكل ممراً بين عدد من المحاور الإقليمية.
ولطالما سعت تل أبيب إلى منع أي تشكيل عسكري – نظامي أو غير نظامي – من التمركز في تلك المنطقة، ومع تنامي المؤشرات على عودة فاعلين ميدانيين إلى الساحة، تُعد الرسالة الإسرائيلية محاولة استباقية لـفرض واقع ميداني دائم ومراقب دولياً، يمنع أي تطور قد يُهدد أمنها أو يفتح جبهة محتملة في المستقبل.
الموقف الروسي: ديناميكية براغماتية وتنسيق مشروط
من اللافت أن روسيا، الحليف الأبرز للنظام السوري، تتبنى موقفاً أكثر مرونة في التعامل مع ملف الجنوب السوري.
ففي السنوات الأخيرة، لعبت موسكو دوراً مباشراً في عقد تسويات مع العديد من الفصائل المسلحة في الجنوب، ساهمت في إنهاء حالة الصراع النشط ضمن ما عُرف بـ"اتفاقات المصالحة".
ويُرجّح أن تتجاوب روسيا بشكل إيجابي مع مطالب "إسرائيل" إذا ضمنت الاستقرار ومنعت نشوب مواجهة جديدة تؤثر على خارطة النفوذ العامة في سوريا،
في هذا السياق، قد تعمل موسكو على لعب دور الوسيط، ومحاولة صياغة تفاهمات تؤمّن مصالح كل الأطراف، شرط ألّا تتعارض مع الرؤية الروسية لحفظ وحدة الدولة السورية وسيادتها.
صمت رسمي وتوتر تحت السطح
رغم حساسية المضمون الذي حملته الرسالة الإسرائيلية، لم تُصدر أي جهة رسمية في سوريا أو من الفصائل المسلحة حتى الآن تعليقاً واضحاً، ويُرجّح أن يكون ذلك نتيجة الترقب الحذر والتريث، بانتظار بلورة رد فعل إقليمي أو دولي.
وفي المقابل، تسود حالة من القلق لدى المجتمعات المحلية، وخاصة في محافظتي درعا والسويداء، التي تخشى أن تؤدي هذه الترتيبات إلى مزيد من التقييد الميداني أو حتى الصدامات المسلحة إذا رُفضت الشروط الإسرائيلية.
هل نحن أمام خارطة أمنية جديدة؟
اللافت في الرسالة الإسرائيلية ليس مضمونها فحسب، بل التوقيت الذي صدرت فيه، والذي يتزامن مع إعادة رسم خارطة النفوذ المحلية في سوريا،
وتسعى تل أبيب فيما يبدو إلى فرض منطقة خضراء بحكم الأمر الواقع، دون إعلان رسمي، لكن مع رقابة ميدانية فعلية، تمنع تكرار أي تجربة مشابهة لما حدث في الشمال أو في مناطق شرق سوريا.
وقد يعتمد نجاح هذه الخطة على:
1- قدرة السلطات السورية على ضبط الوضع الميداني وإبعاد الفصائل.
2- مرونة موسكو في التفاهم مع تل أبيب ضمن "هندسة أمنية مشتركة".
3- غياب أي رد فعل تصعيدي من الفاعلين المحليين في الجنوب.
في الختام: صراع فوق الطاولة وصمت تحتها
بينما تحاول "إسرائيل" إعادة صياغة المعادلات الأمنية في جنوب سوريا، تبقى معظم الأطراف الأخرى في حالة ترقب وانتظار.
لكن الواضح أن هذه الخطوة تحمل تحولاً في الرؤية الإسرائيلية تجاه الجبهة الجنوبية، من مجرّد خطوط حمراء تكتيكية إلى خطة استراتيجية لنزع السلاح وإنشاء منطقة عازلة دائمة.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل تنجح هذه الرؤية في التحقق دون صدام، أم إن الجنوب السوري مقبل على فصل جديد من المواجهة الباردة؟