الوقت- كانت السياسة الخارجية لتركيا في السنوات الأخيرة مليئةً بالإجراءات الخالقة للأزمات في العلاقات مع مختلف البلدان، وخاصةً في المنطقة العربية.
إن محاولة تركيا استخدام أيديولوجية الإخوان لخلق عمق استراتيجي لها في مجال الجغرافيا العربية والإسلامية، لتصبح قطب القيادة للعالم الإسلامي، واستخدام ذلك في المنافسات الجيوسياسية مع الدول العربية المنافسة، هي من أهم العوامل الخالقة للأزمة في علاقات تركيا مع جزء مهم من العرب.
في غضون ذلك، بدأ أردوغان، المعروف بتقلباته المفاجئة في السياسة الخارجية، التحرك في الأشهر الأخيرة لإخراج العلاقات مع العرب من الجمود وتهيئة الظروف لتهدئة التوترات مع الدول العربية.
وفي هذا الصدد، وبعد اتصال هاتفي مهم مع العاهل السعودي خلال القمة الافتراضية لمجموعة العشرين في ديسمبر، أعلن أردوغان ووزير الخارجية التركي أمس استعدادهما لعقد لقاء ثنائي مع مصر، يركز على القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية.
ومع ذلك، فإن إرسال إشارات إيجابية عن الرغبة في تهدئة التوترات مع مصر والإمارات لم يلق ترحيبًا من هذه الدول، وبينما أكد المصريون من خلال وسائل الإعلام المحلية على الحاجة إلى تغيير سياسات أنقرة، فإن الإمارات قد ذهبت إلى أبعد من ذلك ووضعت سبعة شروط مذلة لإقامة علاقات مع أنقرة.
الشرط الأول هو إنهاء احتلال سوريا والعراق، والشرط الثاني انسحاب المرتزقة الأتراك من ليبيا، والشرط الثالث هو إنهاء استضافة الإخوان ودعمهم. والشرط الرابع هو الامتناع عن الأعمال الاستفزازية ضد استقرار مصر، والشرط الخامس هو انتهاء استهداف القيادة السعودية. أما الشرط السادس فهو الانسحاب الفوري لقواتها من الدول الخليجية، والشرط السابع هو إعادة النظر في المخططات العثمانية التوسعية.
مسار التهدئة الوعر
كما ذكرنا، تحاول تركيا إنقاذ نفسها من مخاطر السياسة الخارجية. وكانت التغييرات في البيت الأبيض وتنصيب بايدن، هي المفتاح لظهور مثل هذه الحاجة لدی قادة حزب العدالة والتنمية.
کما أن سياسات ترامب تجاه سوريا، والتي أدت إلى التماشي مع تحركات أنقرة ضد حلفاء واشنطن الأكراد في شمال سوريا(قوات سوريا الديمقراطية)، قد تغيرت في عهد بايدن.
کذلك، مع تحسن العلاقات الأوروبية الأمريكية في الناتو، فإن سياسات أردوغان القريبة من روسيا، وخاصةً في مجال شراء الأسلحة، ستتعرض لانتقادات متزايدة من قبل الناتو.
كما ترى تركيا أن تطبيع العلاقات بين الدول العربية، وخاصةً في الخليج الفارسي، مع الکيان الصهيوني هو جزء من تحالف عربي يركز على مواجهة الإخوان المسلمين، وهو وسيلة لمواجهة خطط تركيا في القضايا الجيوسياسية الهامة، مثل النفوذ في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.
من جهة أحری، فإن محاولة أردوغان للتغلب على الأزمة الاقتصادية والحفاظ على سلطته في الانتخابات المقبلة، التي اصطف فيها تحالف قوي من المعارضين أمام حزب العدالة والتنمية، سبب مهم آخر لميل تركيا إلى الانفتاح في العلاقات الخارجية، وبالتالي التجارة الخارجية التركية.
في غضون ذلك، لا يمكن إنكار اهتمام أنقرة بظروف ما بعد المصالحة بين قطر والدول المقاطعة، بحيث تتمكن من استخدام هذه الأجواء لتسهيل خفض التصعيد مع دول مثل الإمارات ومصر.
ويأتي ظهور أرضيات التحوُّل هذه في سياسة أردوغان الخارجية وجهوده لنزع فتيل التوترات مع العرب، وسط مؤشرات ضعيفة على تراجع الخلافات السياسية والتخاصم الأيديولوجي والتنافس الجيوسياسي بين أنقرة ومصر والإمارات.
إذ مازالت مصر والإمارات على وجه الخصوص تضعان جماعة الإخوان على قائمة الجماعات الإرهابية، وتهديدًا لاستقرارهما الداخلي وأمنهما ومصالحهما الخارجية. کما أن مصر والإمارات لا تزالان ترفضان دور تركيا في تطورات الأوضاع في ليبيا، والمنافسة بالوكالة مستمرة.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من جهود أردوغان لتهدئة التوترات مع تل أبيب، يعتبر الکيان الصهيوني وجود الخصومة بين الدول الخليجية وتركيا دافعاً لتشكيل تحالف عربي عبري في المنطقة، وسيحاول منع تهدئة هذا الصراع.
كما تشير الشروط التي وضعتها الإمارات لخفض التصعيد، إلى أن إنهاء حصار قطر لا يعني انتهاء الأزمة في مجلس التعاون، وأن موافقة الإمارات وحتى مصر على التسوية جاءت بضغط أمريكي وإصرار سعودي، ولذلك فإن تركيا غير قادرة على الاستفادة من أجواء ما بعد التسوية لمصلحتها.
لعبة خاسر-خاسر لتركيا
خلال السنوات الماضية کانت هناك وجهات نظر مختلفة حول تحولات أنقرة المفاجئة في السياسة الخارجية، بين المراقبين المحليين والأجانب ومنتقدي التطورات التركية.
يرى البعض هذه التحولات على أنها مرونة في السياسة الخارجية لتركيا، وميزة لتركيا للخروج من المآزق الحالية وحماية مصالحها الوطنية.
في غضون ذلك، وصف الكثيرون تحوُّل تركيا إلی لاعب لا يمكن الاعتماد عليه وحليف يعاني من فجوة كبيرة في السياسة الخارجية، بأنه إضعاف لمكانتها في الشؤون والمفاوضات الدولية.
في الواقع، إن إلقاء نظرة على نتائج تقلبات السياسة الخارجية لأردوغان وانحرافه عن المواقف السابقة، بشأن قضايا مثل مواجهة أوروبا بسبب الإسلاموفوبيا، أو تهدئة التوترات مع السعودية، أو التراجع عن المواقف المعادية للصهيونية، لم ينتج عنه مكسب كبير لترکيا؛ حيث لا العقوبات الأوروبية قد رفعت، ولا حتى السعودية اتخذت خطوات لرفع العقوبات عن البضائع التركية، ولا تعزَّر موقف تركيا في التطورات الفلسطينية.
كما أن الموقف الأخير المتمثل في مراجعة العلاقات مع مصر والإمارات، قد وضع تركيا في موقع ضعيف أيضاً. وفي هذه الظروف، إذا أراد أردوغان الرضوخ للشروط المذلة، فإنه سيقوي المعارضة الداخلية ويضعف ثقل تركيا في المعادلة الإقليمية؛ وإذا استجاب لهذه الشروط سلبًا، فسيکون ذلك تأييداً منه لضعف وخوف أنقرة من الإجراءات المعادية لتركيا التي يقوم بها التحالف العربي العبري، ويضع هذا المحور في موقع أفضل في المفاوضات المستقبلية المحتملة.