الوقت - مع دخول الحرب الأوكرانية مرحلة تآكلية وتصاعد التنافس بين القوى الإقليمية وعبر الإقليمية على طرق إمداد أوروبا بالطاقة، أصبحت منطقة جنوب القوقاز إحدى بؤر التحدي والتنافس الجيوسياسي الجديدة.
وبصفتها طرفًا فاعلًا يتمتع بموقع جيواقتصادي خاص، تمكنت جمهورية أذربيجان من ترسيخ مكانتها في سوق الطاقة الأوروبية في السنوات الأخيرة من خلال الاستفادة من مواردها الغنية بالطاقة وطرق النقل الاستراتيجية.
إلا أن تعاون باكو المتزايد مع كييف في قطاع الطاقة، خاصةً في خضم الحرب الأوكرانية، أثار ردود فعل روسية علنية وسرية. في الأسابيع الأخيرة، شهدت ثلاثة أحداث رئيسية تغييرًا في لهجة موسكو تجاه باكو، حاملةً رسالة تحذيرية لجارتها الجنوبية:
1. هجمات بطائرات مسيرة على منشآت الغاز التابعة لشركة سوكار الأذربيجانية في أوكرانيا.
2. هجمات بطائرات مسيرة على مستودع نفط سوكار في أوديسا.
3. هجوم على السفارة الأذربيجانية في كييف.
ترسم هذه الحوادث الثلاثة معًا صورة متماسكة لاستراتيجية تحذير روسية، يمكن تحليلها من منظور عسكري-عملياتي، وطاقة-اقتصادي، وسياسي-دبلوماسي.
السياق الجيوسياسي والتاريخي للعلاقات الروسية الأذربيجانية
لطالما كانت العلاقات الروسية-الأذربيجانية خليطًا من التعاون والتنافس. فمن جهة، وفّر القرب الجغرافي والعلاقات الاقتصادية ووجود جاليات ناطقة بالروسية في أذربيجان أساسًا للتعاون. ومن جهة أخرى، تعارضت مشاركة باكو النشطة في مشاريع الطاقة ذات التوجه الغربي، مثل ممر الغاز الجنوبي، وعلاقاتها الاستراتيجية مع تركيا، مع مصالح موسكو في مجال الطاقة والجيوسياسية.
مع اندلاع الحرب الأوكرانية وتشديد العقوبات الغربية على روسيا، تزايدت أهمية أذربيجان بالنسبة لأوروبا كطريق بديل للطاقة. وهذا جعل من باكو لاعبًا حساسًا في معادلات الطاقة، وهو دور أصبح من وجهة نظر موسكو فرصة بقدر ما هو تهديد.
هجمات بطائرات مسيرة على منشآت غاز سوكار
في الأيام التي سبقت حادثة أوديسا، وردت تقارير عن هجمات روسية بطائرات مسيرة على مواقع مرتبطة بالبنية التحتية للغاز الأذربيجاني في أوكرانيا، استُهدفت بشكل رئيسي منشآت تخزين سوكار ومراكز توزيع الوقود.
من وجهة نظر روسيا، لا تُعتبر سوكار مجرد مشروع اقتصادي، بل أداة جيوسياسية في يد باكو لتعزيز حضورها في أسواق الطاقة الأوكرانية والأوروبية. إن الوجود المكثف لشركة سوكار على الأراضي الأوكرانية، خاصةً في زمن الحرب، يعني تزويد أحد أطراف النزاع بالوقود والطاقة، وهو ما تعتبره موسكو تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
حملت الهجمات الأولية على البنية التحتية للغاز رسالة عملياتية وتحذيرًا غير مباشر: "الوجود الاقتصادي النشط للطرف الآخر له ثمن".
هجوم بطائرة مسيرة على مستودع نفط تابع لشركة سوكار في أوديسا
في 9 أغسطس/آب، شُنّ هجوم واسع النطاق بطائرة مسيرة على مستودع نفط شركة سوكار في أوديسا، مما تسبب في أضرار جسيمة وإصابة عدد من الأشخاص. وكان هذا الهجوم أكثر كثافة ورمزية من الهجمات السابقة.
من منظور اقتصادي، يُعد المستودع جزءًا من سلسلة إمداد الوقود الأوكرانية التي تلعب دورًا في إمداد قطاعي الصناعة والنقل بالطاقة. إن تدمير هذه البنية التحتية أو إلحاق أضرار جسيمة بها له عواقب اقتصادية على أوكرانيا، كما يُنذر أذربيجان بشكل غير مباشر بأن استثماراتها في مجال الطاقة على الأراضي الأوكرانية لن تكون آمنة.
من منظور نفسي-سياسي، يُمثل هذا الهجوم انتقال موسكو من مرحلة التحذير الناعم إلى مرحلة الضغط الشديد، فبالإضافة إلى الهدف الاقتصادي، تم التأكيد على البعد الرمزي لضرب أحد أكبر مشاريع الاستثمار الأجنبي الأذربيجانية في أوكرانيا.
الهجوم على السفارة الأذربيجانية في كييف
يُعتبر الهجوم على السفارة الأذربيجانية، رغم محدودية التفاصيل التشغيلية، خطًا أحمر واضحًا من المنظور الدبلوماسي. فمهاجمة بعثة دبلوماسية ليست مجرد عمل ضد مبنى أو موظفيه، بل هي رسالة سياسية مباشرة إلى حكومة ذلك البلد.
يعكس هذا الإجراء، إلى حد ما، انتقال روسيا من الرسائل الاقتصادية-التشغيلية إلى التحذير السياسي العلني. بهذا الإجراء، وجّهت موسكو رسالة إلى باكو مفادها أن "التعاون المفرط مع الجبهة الغربية وأوكرانيا" قد يؤدي إلى أزمة في العلاقات السياسية.
تحليل العلاقة بين الأحداث الثلاثة في إطار استراتيجية تحذيرية
يُظهر تحليل هذه الحوادث الثلاثة معًا أن روسيا تُطبّق نموذج تحذيري من ثلاث مراحل تجاه جمهورية أذربيجان:
المرحلة الأولى (اقتصادية-عملياتية): استهداف منشآت الغاز وتحذير غير مباشر لقطاع الطاقة.
المرحلة الثانية (اقتصادية-رمزية): استهداف أحد أهم موارد الطاقة لأذربيجان في أوكرانيا لزيادة التكاليف المادية والمعنوية.
المرحلة الثالثة (سياسية-دبلوماسية): استهداف السفارة لإرسال رسالة سياسية واضحة وتهديد العلاقات الثنائية.
تنتقل هذه العملية من أدنى مستوى للضغط إلى أعلى مستوى للإنذار، مما يعكس تسلسلًا عقابيًا مُصممًا بعناية، حيث تحمل كل مرحلة رسالة أوضح وأكثر تكلفة من سابقتها.
الجوانب الجيوسياسية والأمنية للتحذير الروسي
على الصعيد الجيوسياسي، تشعر موسكو بالقلق من تشكيل محور باكو-أنقرة-كييف، الذي قد يعمل ضد المصالح الروسية في مجال الطاقة والأمن الإقليمي. ويمكن لتركيا، بصفتها حليفًا استراتيجيًا لأذربيجان وعضوًا في حلف الناتو، أن تعزز مسارات بديلة للطاقة الروسية إلى أوروبا عبر جنوب القوقاز والبحر الأسود.
يرتبط هذا المحور بأوكرانيا في ظروف الحرب، مما يُضاعف حساسية موسكو. أما على الصعيد الأمني، فلطالما كانت روسيا حذرة من استخدام البنية التحتية للدول المجاورة لدعم الجبهة المعادية في حروبها. وقد أظهرت تجربة جورجيا عام 2008 وأوكرانيا منذ 2014 أن موسكو مستعدة لاتخاذ إجراءات استباقية في هذه الحالات.
العواقب قصيرة وطويلة المدى
على المدى القصير: تراجع أمن استثمارات أذربيجان في مجال الطاقة على الأراضي الأوكرانية، وتزايد الضغط على باكو لتعديل تعاونها العلني مع كييف، وإرسال رسالة رادعة للجهات الإقليمية الفاعلة الأخرى التي قد تتدخل في مسار إمدادات الطاقة الأوكرانية.
على المدى الطويل: احتمال تبني أذربيجان سياسات أكثر حذرًا تجاه الأزمة الأوكرانية، وزيادة اعتمادها على تركيا والغرب لتأمين مشاريعها في مجال الطاقة، واشتداد المنافسة الجيوسياسية في جنوب القوقاز، مع احتمال امتدادها إلى المجالين العسكري والأمني.
بشكل عام، لا يمكن اعتبار الأحداث الثلاثة الأخيرة حوادث معزولة، بل حلقات في سلسلة استراتيجية تهدف إلى تغيير حسابات أذربيجان بالتعاون مع أوكرانيا وأوروبا.
ترسم موسكو، باستخدام أدوات عسكرية واقتصادية وسياسية معًا، خطوطها الحمراء بشأن وجود الطاقة الأذربيجانية على الجبهة المقابلة. والرسالة الواضحة لهذا التحذير الثلاثي هي أنه في ظل أجواء الحرب الأوكرانية، لا توجد منطقة تفاعلات قطرية مع الجبهة المقابلة بمنأى عن دائرة التهديدات الروسية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو دبلوماسية.
بالنسبة لجمهورية أذربيجان، تحمل هذه الرسالة خيارين: إما مواصلة مسار التعاون المكثف الحالي مع أوكرانيا وأوروبا، وقبول خطر تصاعد الضغوط الروسية، أو الحفاظ على علاقة أكثر توازناً مع موسكو عبر تعديل دورها في هذا المجال. خيارٌ لن يؤثر فقط على مستقبل العلاقات بين البلدين، بل سيؤثر أيضاً على معادلات الطاقة والأمن في المنطقة بأسرها.