الوقت- تعمل أمريكا جاهدة هذه الأيام على إعادة الاعتبار لنفسها في منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد في سوريا والعراق، عبر توسيع قواعدها وتواجدها العسكري في هذين البلدين بعد ان كانت تميل نحو انهاء وجودها في كلا البلدين، وهذا ليس مستغربا من الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي تهوى نشر الفوضى والخراب في هذه المنطقة للسيطرة على ثرواتها بأقل تكلفة ممكنة وسرقتها علناً، وهذا هو الدافع الأساسي لتواجدها في كل من سوريا والعراق، وها هي اليوم تعمل على توسيع قاعدتين لها شرق الفرات، الأولى في حقل العمر النفطي بدير الزور، والثانية قاعدة تل بيدر، شمال غرب الحسكة.
توسيع القاعدتين ليس هو الأمر الوحيد الذي أقدمت عليه واشنطن وإنما الموضوع الأبرز هو الاتجاه نحو صراع مباشر مع روسيا في شمال سوريا، وهي سابقة خطيرة بين البلدين على اعتبار انهما ينسقان فيما بينهما جميع التحركات العسكرية التي يجريها كل منهما على حدا منعاً للتصادم، إلا أن إدارة ترامب قررت هذه المرة اللعب بالنار والتحرش بالطرف الروسي واستفزازه عبر اعاقة تقدم ارتال من القوات الروسية كانت تتجه نحو شرق الفرات، خلال الشهر الماضي.
الواضح أن أمريكا تريد أن تستفز الجانب الروسي ومن خلفه الحكومة السورية، لإيقاف تقدمها السريع في ادلب والتحضير للتوجه نحو شرق الفرات، وهي رسائل واضحة من ادارة ترامب بأن شرق الفرات خط احمر، لايجب على الروس تجاوزه، كما هو الحال في غرب الفرات، ففي الشرق تتواجد قواعد امريكية التي تقوم بتسيير بدوريات في المنطقة وما حدث خلال الأسبوع المنصرم من توترات بين الدوريات الأمريكية والروسية والتي وصلت إلى حد الاشتباكات بالأيدي وإشهار السلاح بينهما في عدة مناطق، على الطريق الواصل بين الحسكة والقامشلي بعد ان منعت الدورية الأميركية الرتل الروسي من العبور، وعلى الطريق الدولي M4 عند بلدة تل تمر اعترضت القوات الأميركية الدورية الروسية هناك وتعتبر هذه البلدة عقدة وصل بين حلب والحسكة،وأيضا على طريق المالكية في ريف الحسكة والتي تقع في أقصى شمال شرق سوريا حيث توجد فيها فيش خابور (معبر سيمالكا) الحدودي مع العراق ويعتبر هذا المعبر عصب لوجستي هام لقوات التحالف الدولي من عبور شحنات من الأسلحة والمعدات الأخرى، في محاولة من روسيا للوصول إليه وهذا يعتبر تجاوزاً للخطوط الحمر بالنسبة لأمريكا، بعد أن أحكمت روسيا سيطرتها على جزء كبير من الطرق الدولية التجارية M5،M4 في سوريا.
يبدو أن الاعتراضات الأمريكية للدوريات الروسية بمثابة قرار لأمريكا بمنع روسيا من التوسع للسيطرة على المناطق الاستراتيجية والوصول إلى الحدود العراقية والسيطرة على المعابر في تلك المنطقة، ومن جانب آخر يعتبر صراعاً على كسب المناطق وبسط النفوذ بعد مشاحنات أصبحت شبه يومية تحدث في المناطق المذكورة، ما يمكن وصفه بالتسابق بين الطرفين بعد أن جلبت القوات الروسية لمنظومة صواريخ متطورة وحديثة إلى مطار القامشلي، ما يوضح بما فيه كفاية على أن اصطدام القوات الروسية بالقوات الأميركية يدل على حقيقة الصراع بينهما. وبالتالي تتجه المنطقة لتصبح بقعة توتر بين قوتين رئيسيتين في سوريا إذا استمر هذا الاحتكاك، ويترافق ذلك مع الهجوم الدبلوماسي والسياسي لروسيا على الوجود الأمريكي في سوريا واتهامها ب"الاستيلاء على أبار النفط واستخدامها بطرق غير قانونية والسعي إلى تقسيم سوريا وإقامة كيان انفصالي وعدم جدية الولايات المتحدة في محاربة داعش"، وفي المقابل خلطت العودة الأمريكية مجدداً إلى المنطقة الأوراق الروسية، فقامت القوات الأمريكية بإعادة الانتشار والعمل على توسيع قواعدها في شمال وشرق سوريا ومن أبرز تلك القواعد هي قاعدة تل بيدر القريبة من الطريق الدولي M4 في الحسكة.
وعليه يمكن القول بأن التحركات الروسية التي تلاقي اعتراضاً من القوات الأميركية تهدف بناءً على قراءتها للأحداث إلى تقويض وإضعاف الولايات المتحدة الأميركية في شمال وشرق سوريا، في محاولة منها أي روسيا إلى الاستفادة من المستجدات الحاصلة مؤخراً، مرحلة ما بعد قرار ترامب بالانسحاب الجزئي من سوريا ومن العملية الاحتلالية التركية الأخيرة على المنطقة والمعروفة باسم (نبع السلام)، واستثمار هذه التطورات في سياق تدخلها في شمال وشرق سوريا والتوسع بناءً على ذلك. قد يتيح لها هذا الأمر بسط نفوذها على كامل الجغرافيا في شمال وشرق سوريا على حساب أمريكا، ويستند الإدراك الروسي على أن الأحداث الأخيرة في هذه المنطقة غيرت من قواعد اللعبة، ولديها أوراق نتيجة تدخلها في هذه المنطقة تستطيع أن تمارس الضغط السياسي والدبلوماسي على أمريكا لإجبارها على الانسحاب، في ظل التذبذب الأمريكي بقيادة ترامب حيال مستقبل شمال وشرق سوريا، وتصاعد المطالب في العراق بالانسحاب الأمريكي الذي يشكل ضغطاً عليه.
تعد هذه المعطيات السياسية انعكاساً للتعقيدات الظاهرة في طبيعة العلاقة الروسية ـ الأمريكية حيال شمال وشرق سوريا والتي تبرز على هيئة الأحداث المثارة بينهما بعد التطورات الأخيرة. لا يمكن الاستهانة بما يحصل واعتباره أحداثاً عابرة، حيث يسعى كل طرف إلى فرض أجنداته على أرض الواقع، باستقطاب قوات سوريا الديمقراطية وتركيا من خلال محاولة كل من روسيا وأمريكا بكسب الطرفين وتطويعهما في خدمة استراتيجيتهما الهادفة إلى إخراج كل طرف للآخر في شرقي الفرات، حيث أعلن الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية بأنه على استعداد للتفاوض مع تركيا حول الخلافات العالقة بينهما ومن جانبه صرح أردوغان عقب عودته من مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا أن ترامب وبوتين طلبا منه التفاوض مع الجنرال مظلوم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على محاولة كل من روسيا والولايات المتحدة في جذب كل من قسد وتركيا القوتان اللتان تعيشان حالة العداء مع بعضهما البعض.
في الختام؛ هذه الاستفزازت مؤقتة ولن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من الاستمرار فيها، وهي مجرد تحذيرات توجهها أمريكا لروسيا في محاولة لمنع تقدمها نحو الشمال الشرقي ولكن إن لم تتقدم روسيا سيتقدم الجيش السوري الذي يحق له استعادة السيطرة على اراضيه واخراج الأمريكيين منها على اعتبار ان وجودهم غير مشروع هناك.