الوقت- استمرت العلاقات بين السعودية وتركيا على مدى العقد الماضي على الرغم من الخصومات الجيوسياسية والصراعات الأيديولوجية، ويعزى سبب ذلك في كثير من الأحيان إلى النهج التنموي والواقعي لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، حيال أهداف السياسة الخارجية وخاصةً فيما يتعلق بالدول الخليجية.
في هذه الأثناء وخلال الأيام الماضية، كشف موقع "ميدل إيست آي" في تقرير له عن تسرب وثائق من "مركز الإمارات للدراسات"، تشير إلى أن السعودية قد أطلقت "خطةً استراتيجيةً" لتقليل نفوذ تركيا في المنطقة والإطاحة بحكومة رجب طيب أردوغان.
هذا العداء المتنامي في مواقف البلدين تجاه بعضهما البعض يجب أن نعيد جذوره إلى نظرة كل منهما إلى "الربيع العربي".
العلاقات التركية السعودية منذ عام 2011
لقد تم تنظيم السياسة الإقليمية للسعودية على مستويين مهمين، المستوى الأول هو الهيمنة على الدول العربية في المنطقة، واستخدام الهوية الإسلامية لإضفاء الشرعية على هذه الهيمنة، أما المستوى الثاني فهو نوع العلاقات مع الدول غير العربية في المنطقة؛ ولأن السعودية لا تملك الوسائل لتوسيع هيمنتها العربية الإسلامية على هذه الدول، فإنها تستخدم خلق التوازن لإيجاد تفوق نسبي، ولأن تركيا قد برزت تاريخياً ودينياً من قلب الإمبراطورية العثمانية وكانت الركيزة الثانية للسياسة الخارجية لأمريكا وحلف شمال الأطلسي في المنطقة وسوريا، فإن السعودية تتنافس دائماً مع تركيا على مستوى السياسة الخارجية.
تسعى تركيا أردوغان متأثرةً بآراء أحمد داود أوغلو وبناءً على خمسة مبادئ رئيسة تعتمد على زيادة مجال النفوذ، اعتماد استراتيجية متعددة الأطراف وتعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية مع الجيران، كما تسعى إلى توسيع عمقها الاستراتيجي في البلدان الخارجة من انهيار الإمبراطورية العثمانية، لتتمحور حول قوة تركيا الناعمة.
ومع ظهور "الربيع العربي" في تونس وليبيا ومصر نتيجةً لصعود نجم الإخوان المسلمين، توفرت الأرضية لاختراق العمق الاستراتيجي وتوسيع التعددية مع الجيران.
انقلاب عام 2016 في تركيا
مع تدهور الوضع الداخلي لتركيا، رأت السعودية أنه من المناسب الانتقال إلى مرحلة خلق التوازن وإضعاف أردوغان.
بعد فترة وجيزة من الانقلاب، كتب موقع "إي إم سي" الإخباري الأوروبي في تقرير له بناءً على مصادر معلوماتية: "لقد اتخذت السعودية خطواتٍ خطيرةً للغاية من خلال دعم الانقلابيين والتواصل معهم للإطاحة بحكم حزب العدالة والتنمية في تركيا".
وفي الحقبة نفسها أيضاً، قال "جوليان أسانج" مؤسس ويكيليكس في مقابلة مع "روسيا اليوم": إن الانقلاب تم برعاية هيلاري كلينتون والسعودية، وهناك أعضاء من جماعة فتح الله غولن يتبرعون لحملة هيلاري كلينتون الانتخابية.
وفي ديسمبر 2018، كتبت صحيفة "يني شفق" المقربة من الحكومة التركية في تقرير، أن الإمارات والسعودية أنفقتا 3 مليارات دولار خلال انقلاب 15 يوليو 2016.
وكان المسؤولون الأتراك قد اتهموا ضمنياً السعودية والإمارات بلعب دور في الانقلاب الفاشل في هذا البلد قبل عامين، لكن مع تعميق الفجوة بين تركيا والسعودية عقب اغتيال جمال خاشقجي الصحفي المنتقد لآل سعود في القنصلية السعودية في اسطنبول، أثيرت هذه القضية مرةً أخرى بجدية أكبر.
الأزمة السورية وعداء الشركاء القدامى
خلال الأزمة السورية، انتهجت السعودية سياسة خلق التوازن وإضعاف تركيا بشكل أكثر شفافية، وعلى الرغم من أنه في بداية الأزمة السورية والجهود الإقليمية والدولية لجعل هذا البلد في حالة اضطراب، حصلت هناك مواءمة وتوافق بين تركيا والسعودية مثل استخدام موقع تركيا لمحاصرة سوريا، الدعم اللوجستي للجماعات الإرهابية وإرسال المجاهدين السلفيين من أوروبا وأماكن أخرى إلى سوريا، وكان يبدو أن المصالح المشتركة المتمثلة في الإطاحة بالأسد ستؤدي إلى إقامة شراكات استراتيجية، ولكن تدريجياً أصبح واضحاً أن البعد الأيديولوجي للتدخل السعودي في سوريا أكثر وضوحاً من الأبعاد الأخرى، وبالنسبة لتركيا فإن المصالح الجيوسياسية تحتل مكان الصدارة، فأصبح هذان الموقفان في صراع واضح.
أما الضربة الكبيرة لتعاون البلدين في سوريا فتسبب بها تباعد وجهات النظر حول دور الأكراد، فالسعودية التي فشلت في إضعاف تركيا عبر التدخل في الانقلاب، بعد إعلان أمريكا القدس عاصمةً للكيان الإسرائيلي ومعارضة تركيا القوية لهذا الموقف، رأت أنه من المناسب فتح تنافس جديد في شمال سوريا ضد تركيا، وسعي أمريكا لمغادرة شمال سوريا ومطالبتها للدول الخليجية تمويل الوجود المستمر في هذا البلد، كشف كواليس الدور السعودي.
المنافسة في فلسطين
إن سعي حكومة أردوغان للحصول على موطئ قدم لها في القضية الفلسطينية المهمة، والذي برز بشكل واضح خلال الهجوم الإسرائيلي على سفينة مساعدات "مافي مرمرة" إلى غزة، وقبلها المواجهة اللفظية لأردوغان مع شمعون بيريز خلال قمة دافوس الاقتصادية 2010 ، جعل الدور التركي يحل محل الدور السابق للسعودية لدى الرأي العام للشعب الفلسطيني والعالم الإسلامي.
ومهمة السعوديين الآن وبناءً علی إملاءات أمريکية، هي إجبار الفلسطينيين على قبول صفقة القرن، الأمر الذي شکل ضربةً كبيرةً لمكانة الرياض لدی الرأي العام الفلسطيني والعالم الإسلامي.
أزمة مجلس التعاون والمواجهة الجديدة بين أنقرة والرياض
إن مكونات ومصاديق تياري جماعة الإخوان المسلمين المدعومة من تركيا والسلفي التكفيري المدعوم من السعودية والإمارات ومصر، قد بلغت ذروتها خلال أزمة مجلس التعاون وحصار قطر. دول الحصار التي توقعت استسلام الدوحة حتماً وقبول شروطها سريعاً، واجهت دعم تركيا الحازم والسريع لقطر، حيث أعلن رجب طيب أردوغان وفي خطاب له، أن الشروط الـ 13 التي وضعتها دول الحصار لقطر مخالفة للقانون الدولي، وأضفى الطابع الرسمي لاتفاقية أنقرة - الدوحة العسكرية بموافقة البرلمان التركي، وأرسل 5000 جندي إلى قطر في أواخر ربيع 2017. وهذا ما زاد من تدهور العلاقة بين الرياض وأنقرة، بحيث وصف بن سلمان في كلمة له عام 2018 تركيا بأنها جزء من مثلث الشر في المنطقة.
في ليبيا أيضاً، تتناقض مواقف البلدين بشكل صارخ، إذ تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، بينما تسعى السعودية إلى سحق الإخوان المسلمين في ليبيا من خلال دعم خليفة حفتر سياسياً ومالياً.
إجراءات السعودية الجديدة
بعد فشل السعودية في سوريا، وتقارب تركيا مع روسيا وإيران خلال مفاوضات أستانا، اقترحت السعودية في عام 2016 خطة "الناتو العربي"، لكن بعد ستة أشهر من إعلان اللجنة الرباعية، ترددت أنباء عن خروج مصر وفشل الناتو العربي في أبريل 2019.
ومع بروز علامات هزيمة السعودية في الحرب اليمنية وكذلك حصار قطر، وتوقع فشل صفقة القرن والدور المركزي الذي كانت السعودية تبحث عنه في هذه الصفقة الأمريكية، أعاد بن سلمان محاولاته لوضع الخطط لانقلاب جديد في تركيا وتغيير المعادلات فيها، وهزيمة مرشح أردوغان في الانتخابات البلدية باسطنبول، أشعلت شمعة الأمل عند بن سلمان للمضي قدماً في محاسبات تنفيذ انقلاب جديد.
وفي هذا الصدد، كتبت صحيفة "اكسبرس" ومقرها لندن تقريراً قبل يومين قالت فيه: "في أعقاب ضغط المجتمع الدولي المتزايد ضد السعودية بعد مقتل جمال خاشقجي، تسعى الرياض للانقلاب ضد الرئيس التركي".