الوقت- ترخي الخلافات الأمريكية - التركية بظلالها على العلاقات بين البلدين، وقد يبدو ظاهر الأمر أن قضية احتجاز تركيا للقسّ الأمريكي "أندرو برانسون" هي محور الخلافات في هذه المرحلة لكن من السذاجة الاعتقاد بذلك كون الملفات بين واشنطن وأنقرة شائكة وأعقد من قضية "قس" إلا أن الحداثة ساهمت في الخوض في غمار معادلة "تصفية الحسابات القديمة"، فلمن ترجّح الكفة؟!.
واشنطن تُهدّد وتركيا ترد
استغلت أمريكا احتجاز تركيا للقس الأمريكي "أندرو برانسون" لتبدأ حملة تهديدات لم يدّخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جهداً للمشاركة فيها، مهدداً أنقرة بفرض عقوبات عليها إن لم تطلق سراح القس برانسون، وقال ترامب في تغريدة على تويتر: إن واشنطن "ستفرض عقوبات شديدة على تركيا لاعتقالها الطويل للقس أندرو برانسون، وهو مسيحي رائع ورب عائلة، وإنه يعاني كثيراً هذا الإنسان المؤمن البريء ينبغي الإفراج عنه فوراً".
أما نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس فقد سبق زعيم البيت الأبيض بالتهديد بفرض عقوبات على أنقرة إذا لم تتخذ إجراءً فورياً لإطلاق سراح رجل الدين المسيحي وإعادته إلى دياره.
التهديد لا يجدي نفعاً مع أردوغان خاصة بعد الانتخابات الأخيرة والنظام الرئاسي الذي منحه صلاحيات واسعة جداً، وعلى الرغم من أن أسلوب أردوغان براغماتي بامتياز، إلا أنه ليس من السياسيين الذين يتأثّرون بالتهديدات التي يطلقها الطرف المقابل، وبالفعل هذا ما حصل فقد جاءت ردود الأفعال التركية صارمة وتحمل لحناً كلامياً أكثر جدية من أي وقت مضى، وكأن تركيا أُرهقت من الأسلوب الأمريكي المتكرر معها ومع بقية الدول والذي يحمل في طياته نفساً استكبارياً لا يخلو من الإملاءات وحبّ السيطرة والتحكم والتدخل في شؤون الدول الداخلية.
ومن هنا جاء الرد التركي صارماً وعلى أعلى المستويات، ففي الأمس أكد رئيس البرلمان التركي "بن علي يلدرم" أن التهديد لا يفلح مع الشعب التركي داعياً أمريكا للكفّ عن هذه اللغة إذا كانت تريد تطوير علاقاتها مع تركيا على المدى الطويل.
وأوضح يلدرم أنه ينبغي على أمريكا ألّا تنسى أنها توفر الحماية دون أي قيود لزعيم جماعة الخدمة المعارضة فتح الله غولن الذي تحمّله تركيا مسؤولية محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها يوم 15 يوليو/تموز 2016.
وأضاف رئيس البرلمان التركي أن أمريكا إذا كانت دولة قانون، فإن تركيا أيضا دولة قانون، "وبالتالي على واشنطن أن تحترم القرارات القضائية"، ودعا أمريكا إلى التوقف عن "لغة التهديد الرخيصة" والبحث عن سُبل لكسب ثقة الشعب التركي.
وقبل يلدرم بيوم واحد صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في معرض رده على تهديدات نائب ترامب بأنه لا يمكن لأحد أن يفرض إملاءاته على تركيا وأنه لا يمكن لأنقرة التسامح مع أي تهديد.
قضية القس الأمريكي وأبعادها
اعتقلت السلطات التركية القس الأمريكي في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2016، ووجهت له تهم إرهاب وتجسس من بينها ارتكاب جرائم باسم جماعة غولن وحزب العمال الكردستاني تحت مظلة رجل دين، والتعاون معهما رغم علمه المسبق بأهدافهما.
ويوم الأربعاء الماضي قررت محكمة تركية إطلاق سراح القس لكن مع وضعه قيد الإقامة الجبرية ومنعه من السفر في انتظار انتهاء محاكمته.
ولكن هل تتوقف القضية عند هذا الحد وهل يعقل بأن قضية القس أزّمت الأوضاع بين تركيا وأمريكا إلى حدّ فرض عقوبات، وتقديم مشروع من قبل أعضاء مجلس الشيوخ يهدف لمنع تركيا من الحصول على قروض من مؤسسات التمويل الدولية، بالطبع الأسباب أعمق من ذلك وتعود إلى اختلاف وجهات النظر إلى حدّ التعارض بالرأي في مجموعة من الملفات، منها:
- قضية الأكراد، خاصة في سوريا، فواشنطن تعتبرهم حلفاء وتدافع عنهم وتحتضن فتح الله غولن "رجل الأعمال والدين" المقيم في بنسلفانيا، ومقابل ذلك تطالب أنقرة بتسليم غولن للسلطات التركية ولديها حساسية كبيرة تجاه دعم واشنطن للأكراد الذين تحاربهم داخل أراضيها وفي سوريا وتحاول منعهم من بناء دولتهم.
- العلاقة مع روسيا، التي شهدت تحسّناً كبيراً بعد أن كانت تشهد مدّاً وجزراً انتهى بالوصول إلى مستوى جيد نتج عنه شراء تركيا لمنظومة صواريخ اس 400 الروسية التي دفعت واشنطن لحظر بيع طائرات اف 35 المتطورة التي كانت أنقرة تنتظرها على أحرّ من الجمر.
- دور أمريكا في الانقلاب الفاشل منتصف صيف العام 2016، ففي ذلك الوقت اتهم وزير العمل والأمن الاجتماعي التركي سليمان سويلو في تصريحاته لقناة "هابرتورك" التركية، أمريكا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا، حيث قال سليمان إن "طموحات أمريكا وخططها كانت وراء محاولة الانقلاب العسكري الأخير في البلاد"، كما وجهت أصابع الاتهام لـ"غولن" بالتخطيط للانقلاب العسكري الفاشل، وبما أنه يعيش في أمريكا تحت حماية واشنطن، فهذا يعني أن هناك اتهاماً ضمنياً لأمريكا بالتدخل في الانقلاب.
ولواشنطن تاريخ طويل في دعم الانقلابات في تركيا، بداية من الإطاحة بعدنان مندريس رئيس الوزراء التركي في انقلاب 1960بسبب تقاربه مع الاتحاد السوفيتي، ثم دعم ممدوح تاجماك في انقلاب المذكرة بتشكيل وزارة علمانية سنة 1971، ثم دعمت حليفها كنعان إيفرين، في انقلاب سنة 1980 ونقل الخبر رئيس الاستخبارات الأمريكية إلي الرئيس كارتر قائلاً له: "لقد فعلها أصدقاؤنا"، وفي انقلاب 1997 ذكرت صحيفة "ذا نيويوركر" الأمريكية، أن المخابرات الأمريكية كانت مسؤولة عن تدريب جنود ومدنيين أتراك كتنظيم ..." وأجبروا أربكان على التنحي.
في الختام.. تركيا لم تعد كالسابق وأصبحت أكثر وضوحاً في التعاطي مع واشنطن، ورغم أن مصير القس الأمريكي يجب أن يكون بيد القضاء التركي بعيداً عن السياسة، لكننا لا نستغرب أن تحصل مقايضة تبادل السجين الأمريكي مع غولن، ماذا يمنع واشنطن عن التضحية بـ"غولن" التاريخ يقول إنها تفعل ذلك دون الشعور بتأنيب الضمير كما فعلت ذلك مع الأكراد وغيرهم من حلفائها السابقين.