الوقت- المكانة الاستراتيجية التي تتمتع بها السودان والتي شهدت نمواً على صعيد المنافسات بين القوى الإقليمية زادت في رغبة البلدان لتوسيع علاقاتها مع الخرطوم، وقد جسدت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 20 و21 يوليو/ تموز إلى الخرطوم الخلافات الشديدة بين البلدين.
وبحسب السفير المصري في الخرطوم أسامة شالوت، إن الهدف من هذه الزيارة يعود إلى القضايا الثنائية السياسية والتجارية فضلاً عن الأزمة الإقليمية في السودان الجنوبية وليبيا؛ لكن الشواهد تشير إلى عكس ما صرح به شالوت؛ ذلك ان القاهرة تسعى لإزالة التوترات مع السودان على خلفية أسباب تتعلق بالمنافسة الإقليمية لدولة مصر مع باقي الدول التي تطالب تعزيز وجودها في البحر الأحمر.
وكان الرئيس السوداني اتهم مصر في مايو 2017 بتقديم الدعم العسكري للمعارضين داخل بلاده، الأمر الذي نفاه القادة المصريون بشدة، يضاف إلى أن هناك نزاعات حدودية بين البلدين في منطقتي حلايب وشلاتين اللتين تسيطر عليهما مصر حالياً، فيما ترفع السودان سنوياً شكوى إلى مجلس الأمن الدولي بهدف استردادهما.
كما ان السودان ومصر لديهما مصالح متضاربة تجاه بعضهما الاخر؛ وعلى سبيل المثال مشروع سد اثيوبيا العملاق، الذي تنتفع به السودان، فيما ترى مصر أن تنفيذ هذا المشروع يؤدي إلى تراجع منسوبها السنوي من مياه النيل الذي يبلغ حالياً 55.5 مليار متر مكعب.
المنافسة بين تركيا ومصر حول السودان
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وخلال زيارته إلى السودان نهاية ديسمبر 2017، وقّع اتفاقية مع هذا البلد تنصّ على استئجار جزيرة سواكين السودانية ذات الطابع الاستراتيجي في البحر الأحمر لفترة 99 عاماً، قالت انقرة انها "لأغراض تنموية واستثمارية"؛ الأمر الذي لا يشكّل خبراً ساراً بالنسبة لمصر لأن اتفاقية جزيرة سواكين تنطبق تماماً مع استراتيجية تركيا الهادفة إلى تعزيز وجودها في إفريقيا وتحديداً شمال شرقي هذه القارة.
تركيا، وعقب إحباطها في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، انتهجت استراتيجية جديدة تمثلت في الاتجاه نحو إفريقيا؛ مما يشكّل جانباً من جهود هذا البلد للضغط على مصر في عهد السيسي والذي كان السبب في تبديد آمال أنقرة لاستبدال زعماء الدول العربية بالإسلاميين.
ومن جانب اخر، عمر البشير الذي تسلّم مقاليد الحكم في السودان عبر انقلاب عسكري عام 1989، كان قد أسس تحالفاً مع زعيم الإخوان المسلمين فرع السودان حسن الترابي، التحالف الذي مازال قائماً رغم التقلبات التي تعرّض لها.
نظرا لهذه المستجدات والرفض المصري السعودي والصهيوني لتوسع نطاق الفكر الإخواني في منطقة البحر الاحمر، فقد حمل قرار تركيا لاستئجار جزيرة سودانية، رسالة مثيرة للقلق بالنسبة لهؤلاء اللاعبين الإقليميين ولاسيما مصر والسعودية.
في ديسمبر 2017 أعلن وزير الخارجية السوداني إبراهيم الغندور أن تركيا ستقوم ببناء قاعدة بحرية لسفنها المدنية والعسكرية؛ لافتاً إلى أن الاتفاق الثنائي يسهم في تنمية العلاقات العسكرية بين البلدين؛ الأمر الذي ضيّق الخناق على السعودية خاصة أنه جاء بعد أشهر قليلة من تمركز 5000 جندي تركي في قطر.
وبحسب وسائل اعلام تركية فقد شكّل هذا الحدث جانباً من الاتفاق الثنائي بقيمة 650 دولاراً بين أنقرة والخرطوم؛ المبلغ الذي لا تملكه تركيا حالياً، ومن المحتمل أن تتولى قطر توفيره.
كما تعتزم أنقرة بناء مطار حديث في الخرطوم إلى جانب عقد استثمارات في مجال صناعات القطن والطاقة الكهربائية وغيرها من المشاريع الصناعية في هذا البلد؛ يضاف الى أن البلدين اتفقا على رفع مستوى التبادل التجاري بينهما وصولاً إلى 10 مليارات دولار سنوياً.
وجود تركيا وبركان حلايب الهائج
الخلافات الإقليمية القائمة بين السودان ومصر حول مثلث حلايب المتشاطئ مع البحر الأحمر، من شأنها أن تتفاقم في ضوء الوجود العسكري الجديد لتركيا وإمكانية إرسال مزيد من القوات التركية إلى قطر، فضلا عن استمرار نفوذها في الشؤون المصرية عبر توظيف جماعة الإخوان المسلمين والتي يجمعها تحالف حصري مع أنقرة والدوحة.
في المقابل، وقّعت القاهرة في ديسمبر 2016 اتفاقية مثيرة للجدل مع الرياض؛ تفضي إلى نقل ملكية جزيرتي تيران والصنافير في البحر الأحمر إلى السعودية، القرار الذي انتهك بشكل أحادي اتفاقية رسم الحدود بين البلدين، وشكّل اعترافاً رسمياً بسيادة مصر على "المثلث العازل".
من جانبها، تقدّمت السودان خلال العام 2017 برسالة إلى الأمم المتحدة معلنة رفضها لهذه الاتفاقية، مؤكدة أنها تتعارض والقوانين الدولية؛ ليعلن المسؤولون في مصر امتعاضهم؛ مؤكدين أن الحلايب "هي أرض مصرية"؛ كما قررت السودان في 4 يونيو ان تستدعي سفيرها من القاهرة.
وفي ضوء الرد أيضا على ادعاء السودان في إعادة النظر بشأن مثلث الحلايب وأيضاً توجساً من اتساع نطاق تركيا في هذه المنطقة، أقدمت مصر على إرسال المئات من قواتها إلى قاعدة إماراتية محاذية للحدود السودانية في اريتريا، فيما اغلقت السودان حدودها مع الأخيرة وقامت بإرسال آلاف الجنود إلى تلك المنطقة.
مشروع سد النهضة
من القضايا الأخرى التي أسهمت في تفاقم التوترات الحالية بين مصر والسودان، يشار الى استمرار عملية إنشاء "سد النهضة" العملاق؛ الذي يقدر بان يصبح "أكبر محطة هيدروجينية في العالم".
الرفض المصري من جانب، ودعم السودان "الإخوانية" لهذا المشروع من جانب آخر، فسح المجال سريعاً لدول "مجلس التعاون" لتوسّع نفوذها في شؤون حوض النيل والقرن الإفريقي.
من جانبها، اتهمت اريتريا مصر بدعم التيارات الانفصالية داخل أراضيها، وقررت على غرار السودان الاقتراب من قطر، كما اتخذت موقفاً معارضاً للقاهرة في هذه القضية.
وفي ضوء هذ التطورات والتحديات الناجمة عن تعزيز العلاقات السودانية مع تركيا وقطر، وأيضاً مع الأخذ بعين الاعتبار الأزمة التي تمرّ بها السودان حالياً وحاجة هذا البلد إلى سدّ مطالبه الاقتصادية، فقد قررت مصر إزالة هذه التهديدات عبر التوجه نحو الاستثمار في السودان؛ معلنة في 4 يوليو 2018 أن حجم استثماراتها مع السودان يبلغ 2.7 مليار دولار. كما أعلن السفير السعودي في الخرطوم اعتزام بلاده على بناء موانئ جديدة في شواطئ السودان ورفع التعامل التجاري بين البلدين؛ بما يؤكد ارتقاء مكانة السودان الاستراتيجية على صعيد المنافسات بين القوى الإقليمية، ويزيد في رغبة هذه البلدان لتوسيع علاقاتها مع الخرطوم.