الوقت-في الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إغلاق أبواب حروب نووية مخافة أن تقع، فإنه يفتح الباب واسعاً أمام حروب جديدة، حروب السلاح فيها ليس الصاروخ أو القنبلة بل هو الدولار واليوان الصيني، إنها الحرب التجارية، تقترب، والأبواق تكاد تنفخ شرقاً وغرباً، فالقرار الأمريكي بفرض رسوم على ما قيمته 50 مليار دولار من الواردات الصينية يكاد يقابله ردّ فعل صيني مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، وتتضمن الرسوم الأمريكية أجزاءً للطائرات ولوحات الدوائر المطبوعة وصمامات ثنائية وألياف ضوئية، وقال إن الهدف هو معاقبة الشركات الصينية على سرقة الملكية الفكرية، وسيبدأ سريان التعرفة في غضون ثلاثة أسابيع.
ومع التوقعات أيضاً بالدخول في حرب عملات، فإنّ المخاوف تزداد ولاسيما أن الأمر قد يتوسّع خاصة بعد الموقف الأمريكي في قمة الدول السبع في كندا، ويتابع المراقبون هذه التطورات، فإلى أين تتجه الخلافات بين شركاء الأمس؟.
إنها تتجه نحو مواجهة مفتوحة تدفع الشركاء الآخرين إلى تشكيل جبهة موحدة تتخذ إجراءات انتقامية ضد السلع والمنتجات الأمريكية على أساس المعاملة بالمثل؟ أو نحو البحث - رغم كل شيء - عن تسوية ودية خوفاً من التداعيات السلبية لأي حرب تجارية على كل الأطراف؟
في قمة كندا التي وصفها أحد المسؤولين الكنديين بالـ "الكارثية"، برزت بشدة حدّة الخلافات بين أمريكا من جهة، وست دول من أفضل حلفائها من جهة أخرى، حيث بات الأوروبيون اليوم يجدون أنفسهم أمام لحظة حاسمة، لحظة التكاتف والاعتماد على الذات والخروج من المظلّة الأمريكية بعدما أصبح بقاؤهم تحتها مشروطاً بالتسليم بكل ما يريده الرئيس ترامب، هذا ما بات يجمع عليه الأوروبيون بعدما تأكدوا أنه لا حلّ في الأفق لنزاعهم مع الرئيس الأمريكي على المدى القصير على الأقل، فهل باتت المواجهة المفتوحة مع الشريك الأمريكي أمراً محتوماً؟
السيناريو الأول: مواجهة مفتوحة؟
لا صوت في أوروبا يعلو على صوت المواجهة والتعامل بالمثل مع أمريكا، وأغلب الظن أن الاتحاد الأوروبي كما كندا والمكسيك والصين يتهيّأ لحرب تجارية ردّاً على الإجراءات الحمائية التي أقرّها الرئيس الأمريكي. فالشكوى المقدّمة لمنظمة التجارة العالمية قد لا تكون إلا بداية الرّد الذي توعدت به المفوضية الأوروبية، فهي أعدت لائحة بالسلع الأمريكية التي ستخضع لرسوم تضم فضلاً عن المواد الفولاذية، منتجات زراعية وصناعية، وقد تردد أن العقوبات تستهدف في بعض الحالات ولايات أمريكية صوتت لمصلحة الرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسية.
وبينما تمضي واشنطن في حربها التجارية ضد حلفائها، يجتاح شعار أوروبا الموحّدة الأروقة والمنابر السياسية الأوروبية كرد أمثل على السلوك الأمريكي، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، دعت دول القارة إلى امتلاك ناصية أمرها، واتخاذ ما يلزم من إجراءات مضادة، فبرلين يمكن أن تكون أكثر المتضررين من صراع القوة العابر للأطلسي وفي المرمى قطاع صناعة سياراتها الذي يستحوذ على 40 في المئة من السوق الأمريكية. ويؤكد مراقبون جدوى الرّد التجاري، فالاتحاد الأوروبي يحظى بموقع حيوي مميز يمكنه مواجهة أمريكا على صعيد المنافسة، كما أن القوة الاقتصادية لدول الاتحاد تساعده لدى منظمة التجارة العالمية، غير أن ذلك يتطلب قراراً سياسياً أوروبياً موحداً وهو تحدٍّ يحتم تجاوز الخلافات والمصالح الوطنية لكل بلد ومن دون ذلك لن تكون أوروبا لاعباً عالمياً ولن تقدر بالتالي على بلورة ردّ مؤلم لأمريكا قد يعيدها إلى نهج الشراكة التاريخية، وبالنظر للطعنات المتكررة من الحليف الأمريكي سواءً فيما يخصّ اتفاقية المناخ، أو الاتفاق النووي مع إيران، يبدو أنّ رغبة الأوروبيين في الانتقام هذه المرة تتعدى مجال الاقتصاد إلى الوقوف في وجه سياسة ترامب التي أعادت للأذهان مرحلة الانعزال القومي في ثلاثينيات القرن الماضي.
السيناريو الثاني: التسوية المحتملة؟
إذا كانت الصفقات قادرة أحياناً على حلّ الخلافات السياسية، فالأفضل أن تفعل ذلك عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والتجارة، فهل يصار إلى صفقة أو تفاهم ما بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا لنزع فتيل أزمة الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي على واردات الصلب والألمنيوم الأوروبية. المصالح والحدّ من الخسائر قد تدفع الجانبين إلى تجاوز حالة الشدّ والجذب الراهنة نحو صيغة تحفظ مصالحهما ويبدو أنّ التوصل إلى اتفاق تجاري محدود بينهما أكثر إلحاحاً، وهو ما كان قد طرحه الأوروبيون لثني واشنطن عن قراراتها الحمائية.
وبعيداً عن منابر التصعيد والوعيد عرضت المفوضية الأوروبية إجراء تقييم مشترك بين الطرفين، لقناعة الاتحاد الأوروبي بأن قرارات ترامب استندت إلى قراءات خاطئة للبيانات التجارية، وقد بدأ رئيس المفوضية، جان كلود يونكر، بزيارة واشنطن فوراً لحل الخلاف ودياً.
الاتفاق التجاري المحدود الذي يطرحه الأوروبيون يقوم على خفض الرسوم الجمركية على بعض المنتجات الصناعية وأهمها السيارات وفتح المناقصات العامة أمام الشركات الأمريكية، كما يوافق الاتحاد على طلب أمريكا ببدء محادثات بشأن الطاقة ولاسيما في مجال الغاز الطبيعي المسال.
إذاً بين السيناريو الأول والثاني، يبدو أن السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحاً، ففي الاقتصاد كما في السياسة ليس هناك عداوة دائمة، وليس هناك صداقة دائمة، وإنما هناك مصالح مشتركة، فترامب بدأ عهده باشتباكات سياسية واقتصادية، ولا يمكنه أن يظلّ في هذه المواجهة المفتوحة مع شركاء ذي أوزان اقتصادية كبيرة، وسيدرك ترامب في نهاية الأمر إنّ أي ضرر قد يصيب الصين أو الاتحاد الأوروبي سينعكس بالضرورة على الاقتصاد الأمريكي وعلى المواطن الأمريكي الذي يعدّ رهان ترامب في نهاية المطاف.