الوقت-في الوقت الذي اتهم فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أستاذه السابق وعدوه الحالي "فتح الله غولن" بأنه يُريد أن يُنصب نفسه "خليفةُ" للمسلمين، وأنه -أي أردوغان- لن يقبل بتغيير نظام الدولة العلماني؛ بدا وخلال السنتين الماضيتين؛ وأكثر من أي وقتٍ مضى أنّ الخلاف الجوهري بين أردوغان وغولن هو منصب الخليفة ذاته، وأنّ أردوغان "المسلم العلماني" لم يكن ليتنازل عن هذا المنصب ليس فقط لأستاذه بل حتى لوالده، إذا تبدو طموحات أردوغان ليس فقط بالوصول إلى الرئاسة في تركيا بعد الاستفتاء الذي أجراه قبل قرابة العام، بل إلى تسيّد العالم الإسلامي مستنداً على الإرث الحضاري الذي يؤكد عليه دائماً؛ وهو أنّه الوريث الشرعي للخلافة العثمانية التي أسقطها مؤسس الدولة التركية كمال أتاتورك قبل قرابة المائة عام.
التوسع الجديد
بعد انحسار الخلافة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى وانحصار تركيا إلى ما هي عليه الآن؛ ساد البلد الذي يتوسط قارتي أوروبا وآسيا عقوداً من الانقلابات العسكرية، شهدت تركيا خلالها حالة من عدم الاستقرار وتدني مستوى المعيشة، ليضرب الفساد كافة أركان الدولة، وبعد أن ورث أردوغان تركة حزب الرفاه الكبيرة في النجاح بعد خروجه من السجن؛ استطاع أردوغان ومن خلال مهندس الحزب الجديد "داوود أوغلو" –قبل أن ينقلب عليه أردوغان لاحقاً- استطاع أن يسير بحزبه وبتركيا عموماً إلى سياسة خارجية تدعى "صفر مشاكل" وسياسة داخلية قامت على النهوض الاقتصادي ومحاربة الفساد، وقد استطاع أردوغان بحنكته رفع مستوى البلاد الاقتصادي داخلياً، وخارجياً أن يبني علاقات مع مختلف الدول بناء على سياسة "صفر مشاكل" ومن ناحيةٍ أخرى استغل التعاطف الشعبي مع الإسلاميين ليكون أُنموذجاً للإسلام السياسي المنفتح، ومن جهةٍ أخرى مثل حزبه حالةً فريدة بين أحزاب الإسلامي السياسي من خلال قدرته على النهوض بتركيا.
الخلافة العثمانية
وبعد تلك النجاحات بدأ أردوغان بالتمهيد للمجتمع التركي بدايةً والعالمي لاحقاً بأنّه وارث الخلافة العثمانية التي يجب برأيه أن تعود، وهنا بدأ المشهد التركي يتغيّر بشكلٍ عام، ليبدأ مناصرو أردوغان بالتأكيد على العادات الإسلامية واللباس الإسلامي من خلال خطاب إسلامي لم يعده الأتراك، وذلك في محاولة منهم لإلباس "تركيا العلمانية" الثوب الإسلامي.
أما العرب الذين ملّوا حالة الضعف التي تنتاب بلادهم كانوا تّواقون إلى رؤية "مثال إسلامي" استطاع أنّ ينقل بلاده من الحضيض إلى مصافي الدول المتقدمةـ ليكون حزب "العدالة والتنمية" التركي هو ذلك النموذج الذي كان الكثيرون بانتظاره، خصوصاً مع السياسة التي انتهجتها تركيا "صفر مشاكل" مع الجوار.
ومع بداية الربيع العربي بانت النوايا الحقيقة لأردوغان من خلال دعمه لحركة الإخوان المسلمين –التي ينتمي إليها حزبه- في كافة البلاد التي شهدت ثورات على أنظمتها (مصر، تونس، ليبيا واليمن)، غير أنّ هذا الدعم عاد وبالاً على أردوغان، إذ أنّ أردوغان لم يكن يعلم ربما أنّ الإسلاميين في الوطن العربي حالهم حال القوميين العرب، حيث ضربوا أبشع الأمثلة في إدارة البلاد، ولنا في النموذج الإخواني المصري أبرز الأمثلة في الإدارة السيئة للبلاد، ويؤكد خبراء أنّ النموذج التركي في الحكم لا يصلح للبدان العربية، وذلك أنّ الحالة السياسية والاجتماعية التركية لا تشبه نظيراتها في البلدان العربية، الأمر الذي يستحيل معه نقل التجربة التركية إلى العرب.
غصن زيتون يقطر دماً
عملية غصن الزيتون التي أطلقتها تركيا في العشرين من يناير الماضي والتي أطلق عليها الساسة الأتراك اسم "الجهاد المُقدس" مطلقين في الوقت ذاته حملة "دعاء" كبيرة في كافة المساجد التركية، وذلك بحسب مراقبين أوضح مثال على إلباس العمليات العسكرية الثوب الديني، حيث بالغت الحكومة والرئاسة والسياسيون الأتراك بالاستشهاد بالآيات القرآنية، لكن السلوك العسكري التركي وبحسب الخبراء يؤكد أن توظيف القرآن والدين في الخطابات الرئاسية يأتي في سياق الدفاع عن المصالح الآنية والضيقة، مؤكدين أنّ أردوغان يسعى من خلال أسلمة المشهد السياسي إلى تذويب الفوارق العرقية والثقافية واللغوية، وبناء مجتمع "عثماني" جديد، لا مجال فيه للأقليات التي تمثل من وجهة نظر أردوغان عبئاً على القومية التركية، وشوكة في خاصرة الأمن القومي للبلاد، وعقبة أمام تحقيق استعادة أمجاد دولة الخلافة.
وأخيراً، وبحسب مراقبين فإنّ أردوغان ومن وراء تديين الخطابات الرئاسية يهدف إلى تحقيق عدة أهداف، أولها، إقناع تيار المحافظين الدينيين، بما في ذلك الأكراد والقوميون المتدينون، ليكونوا عاملا أساسياً وفيصلاً في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، التي يأمل مؤسس حزب العدالة والتنمية أن تجعله "سلطاناُ عثمانياً" بصلاحيات مطلقة، وثانيها إن تديين الخطاب الرئاسي يصب في إطار الدعاية التي يقوم بها أردوغان لمصلحة بقائه في المشهد من جهة، وتكريس التوجه نحو استعادة إرث الخلافة العثمانية من جهة أخرى.