الوقت- بعد فجوة عميقة طالت ربع قرن، تقف العلاقات السعودية العراقية على أعتاب مرحلة جديدة، تبادل مكوكي للزيارات، تطفو لغة التفاهمات السياسية رغم ضبابيتها، والاهم هو أن الرياض تخوض رحلة دورية تعيد فيها تركيبة استراتيجيتها وترتيب أوراقها في بغداد برهانات قوامها الاقتصاد.
ترجمته جملة استثمارات، انطلاقا من تأهيل الطرق الرابطة بين مدن المنافذ الحدودية للبلدين التي تسعى في أن تسهم بزيادة التبادلات التجارية، مرورا بمشروع الربط الكهربائي وانشاء منطقة تبادل تجاري، ختاما بفتح ممثليات للشركات السعودية للاستثمار في الزراعة والطاقة والصناعة والمواد الغذائية وفي مجالات أخرى على رأسها النفط والغاز.
لاشك في ان بغداد حالها كحال أي عاصمة أخرى، لا يمكن لها أن ترفض عروضا مغرية كالتي تقدمها الرياض، خاصة وأنها تمر في مرحلة عنوانها العريض، الاعمار والبناء واعادة الحياة للشارع العراقي بعد أن سلبت جراء المطبات السياسية والحرب على داعش وغيرها من المعوقات.
وشراكة اقتصادية كهذه ستعود للعراق بنتائج مثمرة قد تلمس سريعا.
لكن السؤال الذي يراود الاوساط العراقية، هو توقيت الانفتاح السعودي على العراق.؟!
والاهم، الثمن من وراء هذا الانفتاح .؟!
لماذا الان .. منذ ألفين وثلاثة حتى قبل أشهر لم تستثمر السعودية في العراق قرشا واحدا بما يخدم المواطن العراقي، يقول البعض ان المعادلة السعودية الجديدة ازاء بغداد تتزامن مع تطورات حساسة تمر بها المملكة، تحديدا مع رحلتها التصعيدية ضد طهران بقيادة "محمد بن سلمان" ولي العهد السعودي ومحرك سياساتها في الداخل والخارج، تصعيد في غير ساحة للمواجهة، في لبنان واليمن وسوريا، حيث يدرك بن سلمان أن احتواء العراق خطوة هامة في تركيبة تحركاته القادمة.
يرى هؤلاء ان السعودية تسعى الى ايجاد منفذ لهذه المواجهة -مع طهران- في الساحة العراقية، باللعب على وتر خلافات البيت الشيعي العراقي واستغلال تضارب الرؤية فيه ازاء قرارات البلد الداخلية والخارجية ومنها استراتيجيته في بناء علاقاته مع طهران من جانب ومع الرياض من جانب آخر، واذا ما تهشم زجاج البيت الشيعي العراقي الهش أصلا، فأنها بذلك قد كسبت الرهان وعبرت أشواطا من استراتيجياتها.!
يرى اخرون ان غاية المملكة وتحت يافطة اعادة اعمار المناطق السنية في العراق وضعت لنفسها أجندة كجزء من مخطط يهدف الى اعادة نفوذها على شركاء العملية السياسية، واعادة خلط الاوراق الداخلية ما بين الفرقاء قبيل الانتخابات المرتقبة في ظل المناخ الطائفي الاقليمي الذي تقوده، بعد أن خسرت ورقة "داعش" التي تم القضاء عليها وأخواتها من المجموعات الارهابية المتطرفة.
وهناك من يعتقد أن كل ما تقوم به الرياض هو تنفيذ لمشروع أمريكي، يطمح البقاء في العراق بزي "رجل الاعمال" بعد أن بقيت -واشنطنَ- تتلاعب في البلد ما بين سنوات الاحتلال وحقبة التحالف بذريعة الحرب على داعش. وفي المقابل تقدم واشنطن الحماية للرياض من طهران.!
من هنا نجد أن شعور الترحيب العراقي بالمبادرات السعودية الاقتصادية تحديدا ممزوج بحذر وقلق عميقين، ومخاوف من أن يصبح مصير بغداد كالعاصمة اللبنانية "بيروت" على غرار حجم التأثير السعودي فيها، بقراراتها المصيرية والحاسمة وحدود سيادتها التي دعت رئيس وزرائها "سعد رفيق الحريري" مؤخرا من ان يعلن استقالته من خارجها ومن الرياض تحديدا.!
لا يمكن لعراق العبادي الذي أعاد الامل ورسم التفائل من جديد على وجوه العراقيين بالقادم من الايام، أن يخيب ظنونهم وأن يعيدهم الى زمن الصراعات والاحتلالات من لون آخر، بعد شلالات من الدم دفعها العراقيون ثمنا باهظا في طريق حريتهم وقدموا الغالي والنفيس، من أجل سيادة قرار حرموا منه لعقود ان لم يكن أكثر.!
واذا ما يبقى الكلام السعودي المعسل بنكهة الريال والبترودولار يُطرب أسماع الساسة في بغداد، فأن زغاريد أمهات الشهداء وأنين أوجاعهن يهزّ عروش البلاد.!