الوقت- منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، تغيّر ميزان الصراع بشكل جذري، الحدث الذي بدأ كاختراق أمني مفاجئ تحوّل إلى زلزال سياسي وعسكري ونفسي هزّ أركان العقيدة الإسرائيلية التي تأسست على التفوق والردع، خلال عامين، تراجعت صورة الجيش الذي لا يُقهر أمام صمود مقاومة محدودة الموارد، بينما تكشف المؤشرات الميدانية عن عمق الخسائر التي حاولت تل أبيب إخفاءها.
الإحصائيات المخفية والخوف من الحقيقة
اتبعت "إسرائيل" منذ بداية الحرب سياسة صارمة في تقييد المعلومات، فتمّ حجب الأرقام الحقيقية للقتلى والمصابين وحالات الانهيار النفسي في صفوف الجنود، ورغم محاولات الرقابة العسكرية فرض رواية الإنجازات، فإن تسريبات متكرّرة أكدت أن الخسائر تجاوزت تقديرات كل الحروب السابقة، هذا التعتيم يعكس خوف المؤسسة الإسرائيلية من انهيار الجبهة الداخلية، إذ إنّ كشف الحقائق قد ينسف ما تبقّى من ثقة الجمهور بقيادته، لم يعد الهدف حفظ السرية العسكرية فحسب، بل منع انهيار صورة الدولة أمام نفسها وأمام العالم.
المجتمع الإسرائيلي في مواجهة ذاته
بعد عامين من القتال، أصبح المجتمع الإسرائيلي يعيش أزمة نفسية حقيقية، تصاعدت حالات الاكتئاب والانتحار، وامتلأت العيادات النفسية بالجنود العائدين من غزة وهم يحملون صدمات لا تُرى، لم تعد المعاناة مقتصرة على من في الجبهة، بل امتدت إلى الأسر التي فقدت أبناءها أو تنتظر عودتهم دون أمل، هذه الحالة الجماعية من الخوف وعدم الأمان تمثل تحوّلاً جوهرياً في البنية الاجتماعية لـ"إسرائيل" التي طالما رأت نفسها محصّنة أمام القلق الوجودي، اليوم، يشعر الإسرائيلي أن التهديد لم يعد خارجياً فقط، بل داخلياً أيضاً، مصدره اهتزاز الثقة بالدولة وجيشها.
تفكك الثقة داخل الکیان
سياسياً، كشفت الحرب هشاشة الکیان الإسرائيلي، فمع استمرار الخسائر، تصاعدت الخلافات بين الحكومة والجيش، وبدأت الاتهامات المتبادلة حول من يتحمل الفشل، لم تعد القيادة قادرة على صياغة رؤية واضحة لإنهاء الحرب أو حتى تحديد أهدافها، تآكلت صورة الزعامة، وظهر انقسام واضح بين من يريد التصعيد ومن يطالب بالانسحاب، هذا الانقسام لم يعد سياسياً فقط، بل امتد إلى الشارع، حيث تراجعت الروح الوطنية أمام واقع الخسائر والدمار والعجز عن تحقيق نصر حاسم.
التحليل النفسي والسياسي للحالة الإسرائيلية
ما يعيشه المجتمع الإسرائيلي اليوم ليس مجرد أزمة حرب، بل أزمة هوية، فقد كان يعيش لعقود في إطار الدولة القوية المستقرة، بينما أظهر طوفان الأقصى أن هذه القوة تعتمد على سردية أكثر منها على واقع ثابت، الانهيار النفسي الذي يضرب الجنود والمستوطنين كشف أن القوة المادية لا تضمن الثقة بالنفس ولا تردع الخوف الداخلي، "إسرائيل" التي طالما صدّرت صورة الأمن باتت تصدّر القلق والشك، وأصبحت تُدار بعقلية دفاعية تبحث عن البقاء بدل التفوق، هذا التحول النفسي هو أخطر نتائج الحرب، لأنه يضرب فكرة القدرة على الردع التي شكّلت أساس وجودها.
انعكاسات الحرب على الوعي الإقليمي
لم تكن النتائج محصورة داخل "إسرائيل"، فقد أحدثت الحرب تحوّلاً في الوعي الإقليمي والعالمي، فالصورة التي روّجتها "إسرائيل" لعقود كضحية دائمة تآكلت أمام مشاهد الدمار في غزة، وأمام إدراك العالم أن التفوق العسكري لا يعني النصر الأخلاقي أو الإنساني، في المقابل، ارتفع الوعي الفلسطيني والعربي بفكرة القدرة على التغيير، وأن المقاومة رغم الحصار قادرة على زعزعة أركان دولة تمتلك أحدث الأسلحة، هذا التحول في الوعي هو أحد أعظم مكاسب الحرب، لأنه نقل مركز القوة من السلاح إلى الإرادة.
ما بعد الحرب: مجتمع مهزوز ومستقبل غامض
"إسرائيل" بعد عامين من الحرب ليست كما كانت قبلها، فالمجتمع يعيش حالة تفكك نفسي وفكري، والقيادة غارقة في ارتباك استراتيجي، والجيش يواجه أزمة ثقة داخلية غير مسبوقة، لم تعد المسألة مسألة خسائر مادية، بل أزمة معنويات ووعي جمعي، كثير من الإسرائيليين بدؤوا يشكّكون في جدوى استمرار الحرب وفي قدرة دولتهم على حمايتهم.
الجيل الشاب، الذي نشأ على فكرة الأمن الدائم، يواجه الآن واقعاً مختلفاً: الخوف من المستقبل، والهجرة، والانقسام الطبقي والسياسي، ومع استمرار التوترات على جبهات أخرى، يبدو أن "إسرائيل" تواجه مرحلة طويلة من إعادة تعريف ذاتها، ليس فقط كقوة عسكرية، بل ككيان يبحث عن توازن داخلي مفقود.
طوفان الوعي قبل طوفان النار
بعد مرور عامين، يتبيّن أن طوفان الأقصى لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل زلزالاً نفسياً أعاد رسم وعي المنطقة، فبينما تواصل "إسرائيل" إخفاء أرقام خسائرها، لا يمكنها إخفاء جروحها العميقة التي تسري في جسدها الاجتماعي والسياسي، الحرب التي أرادت أن تُعيد فيها الردع انتهت إلى فقدان الردع داخلياً وخارجياً، وإلى تسليم مجتمعٍ مثقلٍ بالخوف والشك.
لقد غيّرت هذه الحرب مفهوم القوة في المنطقة، وأثبتت أن التفوق لا يُقاس بالسلاح فقط، بل بالقدرة على الصمود والإيمان بعدالة القضية، وما بين جدار الخوف الإسرائيلي وصمود الفلسطينيين، يبدو أن التاريخ بدأ يكتب فصلاً جديداً عنوانه : الطوفان الذي أغرق النفس الإسرائيلية قبل أن يهزّ حدودها.