الوقت- منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، يعيش الاقتصاد الإسرائيلي واحدة من أعقد أزماته الداخلية في العقود الأخيرة، حيث لم تقتصر التداعيات على القطاعات التقليدية كالاستثمار والسياحة والتجارة، بل امتدت إلى عصب الاقتصاد الإسرائيلي الأبرز قطاع التكنولوجيا المتقدمة (الهايتك).
هذا القطاع الذي كان لسنوات طويلة يُعتبر محرّك النمو الاقتصادي، يعاني اليوم من ارتفاع معدلات البطالة، تقلص الاستثمارات، تراجع التصنيف الائتماني، فضلاً عن منافسة غير متكافئة مع الذكاء الاصطناعي الذي يزاحم آلاف العاملين في وظائفهم.
صعود قطاع التكنولوجيا قبل الحرب
قبل الحرب على غزة، كان قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي يُمثل قصة نجاح استثنائية، وفقاً لبيانات رسمية، ارتفع عدد العاملين في القطاع بين عامي 2014 و2023 بنسبة تقارب 60%، حيث انضم ما يقارب150 ألف موظف جديد إلى سوق العمل، معظمهم في مجالات البحث والتطوير.
- رواتب مرتفعة: العاملون في هذا القطاع كانوا يتقاضون أجوراً تفوق بكثير المتوسط الاقتصادي العام، ما جعل الوظائف التقنية الأكثر جاذبية للشباب.
- استثمارات متزايدة: الشركات العالمية ضخت مليارات الدولارات في مشاريع ناشئة إسرائيلية، وجعلت من تل أبيب مركزاً إقليمياً للتكنولوجيا.
- دور حيوي في الاقتصاد: قطاع التكنولوجيا ساهم بنسبة تفوق 17% من الناتج المحلي الإجمالي، وأكثر من 40% من إجمالي الصادرات.
لكن هذه الصورة الذهبية بدأت بالتشقق مع تصاعد الأوضاع الأمنية، ثم انهارت بشكل واضح بعد الحرب على غزة.
آثار الحرب: من الازدهار إلى الركود
مع اندلاع الحرب، ظهرت تأثيرات مباشرة على سوق التكنولوجيا:
- زيادة البطالة: للمرة الأولى منذ عقدين، تجاوز معدل البطالة في قطاع التكنولوجيا المتوسط الوطني، وخاصة بين الشباب والموظفين قليلي الخبرة، الإعلام العبري أطلق على هذه الظاهرة اسم «أزمة الشباب».
- تراجع الفرص الوظيفية: فرص التوظيف الجديدة تراجعت بشكل حاد خلال عام 2024، نتيجة توقف الاستثمارات الأجنبية وانسحاب بعض الشركات العالمية.
- الانقسام الاجتماعي والجغرافي: معظم الوظائف التي فُقدت كانت في المناطق الطرفية أو بين الفئات الأقل اندماجاً، ما زاد من معدلات الفجوة بين المركز والأطراف.
الذكاء الاصطناعي: منافس إضافي للإنسان
الحرب لم تكن العامل الوحيد الذي ضرب قطاع التكنولوجيا، فقد ترافق ذلك مع التوسع السريع في استخدام الذكاء الاصطناعي (AI)، ليس فقط في المؤسسات الخاصة، بل أيضاً في الجيش الإسرائيلي.
- دراسة أجراها مركز سياسات العمل والرفاه في تل أبيب أكدت أن الذكاء الاصطناعي بات يهدد وظائف عشرات الآلاف من الموظفين، خصوصاً في الأعمال الداعمة مثل المساعدة التقنية، إدخال البيانات، والدعم اللوجستي.
- البروفيسور غيل أبستين، أحد المشاركين في الدراسة، صرّح بأن «الذكاء الاصطناعي غيّر ملامح سوق العمل في الهايتك الإسرائيلي، وبدأت موجة الاستغناء عن الموظفين في الوظائف الأقل تعقيداً».
وبذلك يجد العاملون أنفسهم بين مطرقة الحرب وسندان الأتمتة، حيث تقلصت الفرص وأصبح الاستبدال بالآلات أكثر إغراءً للشركات الباحثة عن خفض التكاليف.
تراجع التصنيف الائتماني: إنذار اقتصادي خطير
انعكست تداعيات الحرب على الوضع المالي والائتماني للكيان الإسرائيلي:
- وكالات كبرى مثل موديز (Moody’s) وستاندرد آند بورز (S&P) خفّضت التصنيف الائتماني للكيان الإسرائيلي عدة مرات خلال العامين الماضيين.
- في 8 يوليو 2025، ذكرت صحيفة «غلوبس» الاقتصادية أن وكالة موديز خفّضت التصنيف إلى أدنى مستوى في فئة الاستثمار، محذرة من احتمال استمرار التراجع بسبب «التوترات الأمنية المستمرة والضغوط المالية».
- تشير التقديرات إلى أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستبلغ حوالي 75% نتيجة زيادة النفقات العسكرية وتباطؤ النمو الاقتصادي.
هذا التراجع يعني ارتفاع تكاليف الاقتراض، وتردد المستثمرين الأجانب في ضخ رؤوس أموال جديدة، وهو ما يضرب مباشرة أحد أعمدة نجاح قطاع التكنولوجيا.
الأرقام تتحدث: صورة الاقتصاد بعد الحرب
وفقاً للتقارير العبرية والتحليلات الاقتصادية:
- 150 ألف موظف جديد التحقوا بالقطاع بين 2014-2023، لكن نسبة معتبرة منهم فقدوا وظائفهم بعد 2023.
- البطالة تجاوزت المعدل الوطني، وخصوصاً في وظائف الهايتك المبتدئة.
- الصادرات التكنولوجية التي كانت تمثل أكثر من 40% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية تواجه خطر الانخفاض.
- الدين العام مرشح للارتفاع إلى مستويات غير مسبوقة، ما يعقّد أي خطط إنعاش اقتصادي.
انعكاسات اجتماعية وسياسية
الأزمة الاقتصادية الحالية تتجاوز الجانب المالي لتتحول إلى أزمة اجتماعية وسياسية:
- أزمة ثقة بين الشباب: جيل جديد من خريجي الجامعات التقنية يشعر أن وعود «وادي السيليكون الإسرائيلي» كانت وهماً.
- هجرة العقول: ازدياد معدلات هجرة الكفاءات إلى الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تتوافر فرص أكثر استقراراً.
- ضغط على الحكومة: الائتلاف الحاكم يتعرض لانتقادات متزايدة بسبب فشله في حماية «محرك الاقتصاد».
- تزايد الفجوات الطبقية: الأجور المرتفعة في الماضي خلقت طبقة وسطى عليا، لكنها مهددة بالانكماش والانزلاق نحو البطالة.
سيناريوهات المستقبل
أمام الكيان الإسرائيلي ثلاثة سيناريوهات محتملة في ما يتعلق بقطاع التكنولوجيا:
- السيناريو المتفائل: انتهاء الحرب، استقرار أمني نسبي، عودة الاستثمارات الأجنبية، تبني سياسات تحفيزية للشركات الناشئة.
- السيناريو الواقعي: استمرار التوتر الأمني مع تعافٍ بطيء، وبقاء البطالة مرتفعة نسبياً، ما يعني مرحلة ركود طويلة للقطاع.
- السيناريو المتشائم: تصاعد الحرب، مزيد من العقوبات الدولية أو انسحاب رؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما قد يقود إلى انهيار نسبي للهايتك الإسرائيلي كقطاع قائد للاقتصاد.
الهايتك الإسرائيلي، الذي لطالما كان يُقدَّم للعالم كقصة نجاح صهيونية، يواجه اليوم أكبر اختبار في تاريخه، فالحرب على غزة لم تُلحق خسائر عسكرية وإنسانية فقط، بل أدخلت الاقتصاد الإسرائيلي في دوامة معقدة، ومع التهديد المتسارع للذكاء الاصطناعي، يبدو أن الكيان الإسرائيلي يقف على مفترق طرق اقتصادي، حيث قد يخسر أهم ورقة قوة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن السنوات القادمة ستكشف ما إذا كان القطاع سيستعيد عافيته أم إن الكيان الإسرائيلي سيفقد تدريجياً لقب «وادي السيليكون الشرق أوسطي» لتتحول قصته من أسطورة نجاح إلى حكاية انهيار بطيء بفعل الحرب والتكنولوجيا معاً.