الوقت- حذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف من أن الأمهات والمواليد في قطاع غزة يعيشون "أسوأ وضع إنساني يمكن تصوّره"، مؤكدة أن مستشفى ناصر في خان يونس بات عاجزًا عن استيعاب مزيد من الجرحى والنساء اللواتي أنجبن في ظروف بالغة القسوة، فيما شددت الأمم المتحدة على أن ما يسميه الكيان الإسرائيلي "مناطق آمنة" في الجنوب "ليست سوى مناطق موت".
لا مكان آمن في غزة
في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية الكثيفة على مختلف مناطق القطاع، قالت الأمم المتحدة في بيان صدر يوم الجمعة إن "لا مكان آمنًا في غزة"، مشيرة إلى أن مئات آلاف المدنيين تلقّوا أوامر إخلاء جديدة من شمال القطاع ومدينة غزة، دون وجود وجهة بديلة يمكن أن تؤويهم.
وأكدت المنظمة الدولية أن "المناطق التي يطلب الكيان الإسرائيلي من المدنيين التوجه إليها في الجنوب تحوّلت إلى مصيدة جماعية، إذ لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة، ويطالها القصف بشكل متكرر".
وأضاف البيان إن "عمليات القصف المتواصلة، وإغلاق المعابر، وانهيار النظام الصحي، حولت غزة إلى مكان غير قابل للعيش"، داعيًا إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية آمنة.
مستشفى ناصر.. مرآة الكارثة الإنسانية
في قلب الجنوب، يتحول مستشفى ناصر إلى مشهد يومي للفوضى والعجز، الممرات مكتظة بالنساء والأطفال والرضّع، وأصوات الأنين تختلط بدخان القصف ورائحة المطهرات الشحيحة.
قال جيمس إلدر، المتحدث باسم اليونيسف، في تصريح نقلته وكالات الأنباء:
"الوضع بالنسبة للأمهات والمواليد في غزة لم يكن يومًا أسوأ من الآن، المستشفى مزدحم إلى درجة أن النساء اللواتي أنجبن حديثًا يضطررن إلى النوم على الأرض أو في الممرات، الأطباء يعملون بلا كهرباء ولا أدوية ولا أمل."
وأضاف إلدر إن "بعض الأطفال يُوضعون اثنين في نفس الحاضنة، بسبب النقص الحاد في المعدات الطبية، فيما تتعطل أجهزة التنفس بشكل متكرر نتيجة انقطاع التيار الكهربائي".
من داخل المستشفى ذاته، وصف أحد الأطباء الوضع بأنه "خارج السيطرة"، موضحًا أن "القصف المستمر يمنع وصول سيارات الإسعاف في الوقت المناسب، وأن عشرات المصابين يفارقون الحياة بسبب تأخرهم في الوصول أو بسبب نقص المعدات".
الولادة تحت النار
تشير بيانات وزارة الصحة في غزة إلى أن أكثر من 50 ألف امرأة حامل في القطاع يعانين من ظروف صحية صعبة، وأن أكثر من 5 آلاف منهنّ يواجهن خطر الولادة في مواقع النزوح أو في الشوارع.
تقول إحدى النازحات التي وضعت مولودها قبل أيام في أحد ممرات مستشفى ناصر:
"كنت أمشي لساعات طويلة تحت القصف حتى وصلت المستشفى، لم يكن هناك سرير ولا ممرضة، وضعت ابني على الأرض، وغطيته بقطعة قماش حصلت عليها من امرأة أخرى."
حسب اليونيسف، فإن ما لا يقل عن 10 آلاف طفل رضيع في غزة يواجهون خطر الموت بسبب سوء التغذية، أو نقص الحليب الصناعي، أو انقطاع الكهرباء الذي يعطل الحاضنات.
"المناطق الآمنة".. وهم قاتل
منذ أسابيع، يدعو الكيان الإسرائيلي الفلسطينيين إلى النزوح من مدينة غزة وشمال القطاع نحو الجنوب، وتحديدًا إلى منطقة المواصي الساحلية، زاعمة أنها "منطقة آمنة" تحت إشراف الجيش الإسرائيلي.
لكن المتحدث باسم اليونيسف وصف هذه الادعاءات بأنها "مهزلة مؤلمة"، موضحًا أن "الحديث عن مناطق آمنة في غزة ليس سوى وهم دعائي؛ فالقنابل تتساقط بوتيرة يومية، والمدارس التي تحولت إلى ملاجئ تُقصف تباعًا، والخيام تُحرق واحدة تلو الأخرى".
وأضاف:
"عندما يقول الكيان الإسرائيلي إن هناك مناطق آمنة، فهي تتحدث عن خيام مهترئة في منطقة بلا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي، حيث يموت الأطفال من الجفاف والأمراض قبل أن تصلهم المساعدات."
الأمم المتحدة: مناطق الموت لا مناطق الأمان
تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أشار إلى أن "المواصي" التي تُقدَّم كملاذ إنساني، تحولت إلى "أكثر مناطق الأرض اكتظاظًا بالسكان"، إذ تجاوز عدد المقيمين فيها مليون نازح يعيشون في ظروف وصفها التقرير بأنها "غير إنسانية تمامًا".
وأكد التقرير أن "القصف الإسرائيلي طال خلال الأيام الماضية أطراف المواصي ذاتها"، ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المدنيين، بينهم أطفال ونساء.
وأوضح أن "المدارس والملاجئ التي تديرها الأونروا تتعرض بشكل متكرر للقصف أو الأضرار الهيكلية، رغم أنها معلّمة بإشارات واضحة تدل على كونها منشآت إنسانية".
انهيار المنظومة الصحية والإنسانية
أعلنت وزارة الصحة في غزة أن عدد المستشفيات العاملة حاليًا لا يتجاوز11 مستشفى من أصل 36، ومعظمها يعمل جزئيًا، كما أن أكثر من 70% من المراكز الطبية خارج الخدمة بسبب القصف أو نفاد الوقود والأدوية.
وتحذر المنظمات الدولية من أن استمرار منع دخول الإمدادات الطبية سيؤدي إلى "انفجار وبائي" في الأسابيع المقبلة، وخاصة مع تكدس مئات الآلاف من النازحين في مناطق ضيقة تفتقر إلى المياه النظيفة والمرافق الصحية.
أما منظمة الصحة العالمية، فقد قالت إن فرقها "تفقدت مرافق طبية تحولت إلى أنقاض، وإن ما يجري هو انهيار شامل للبنية التحتية الصحية في غزة".
في السياق ذاته، قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا إن "عشرات الآلاف من العائلات بلا مأوى، وإن المساعدات الغذائية والمياه المتوفرة تكفي بالكاد لأيام قليلة"، مؤكدة أن "المدنيين يواجهون مجاعة حقيقية في بعض مناطق الجنوب".
موجات نزوح جديدة
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 400 ألف فلسطيني نزحوا خلال الأيام الأخيرة من شمال القطاع إلى الجنوب، في ظل موجة قصف غير مسبوقة استهدفت مدينة غزة ومخيماتها.
وقال بيان الأونروا إن "المشهد الإنساني في غزة لم يعد يُحتمل، فالعائلات تسير كيلومترات تحت القصف، حاملة أطفالها وحقائبها القليلة، بحثًا عن مكان لا تصل إليه الطائرات".
العديد من الشهادات الميدانية تُظهر مشاهد مروّعة: نساء يلدن على الطريق، وأطفال ينامون على الأرصفة، وشيوخ يموتون عطشًا في طريقهم إلى مناطق النزوح.
إحدى النازحات قالت: "هربنا من الشمال بعد أن تهدمت منازلنا. مشينا ساعات طويلة، ولم نجد سوى خيمة مكسورة على أطراف خان يونس، لا طعام، لا ماء، ولا نوم.. فقط الخوف."
"إسرائيل" تصعّد بعد رفض خطة ترامب
تزامن هذا التصعيد مع إعلان حركة حماس الموافقة جزئيا على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب، وهو ما أعقبه الكيان الإسرائيلي بحملة قصف عنيفة استهدفت مدينة غزة وشمال القطاع، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى خلال ساعات قليلة.
وأعلنت الدفاع المدني في غزة أن المدينة "تعيش تحت نار جحيمية"، وأن طواقم الإنقاذ "غير قادرة على الوصول إلى عشرات المنازل المدمرة بسبب استمرار الغارات الجوية".
وشهدت الليالي الماضية أكثر الهجمات دموية منذ بداية الحرب، حيث استهدفت الطائرات الإسرائيلية أحياء مكتظة بالمدنيين في مدينة غزة ورفح وخان يونس، ما أسفر عن سقوط أكثر من 80 شهيدًا خلال ساعات، معظمهم من النساء والأطفال.
القانون الدولي والالتزامات المنتهكة
القانون الدولي الإنساني ينص على حماية المدنيين وضمان حقهم في المأوى الآمن أثناء النزاعات المسلحة، ويُحظّر استهداف المستشفيات أو تعطيل الخدمات الإنسانية.
لكن وفقًا لتقارير منظمات حقوقية دولية، فإن إسرائيل "تنتهك هذه المبادئ بشكل منهجي"، من خلال فرض الحصار الشامل، وقصف مناطق الإيواء، ومنع المساعدات الطبية والغذائية.
وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير حديث إن "الممارسات الإسرائيلية في غزة تمثل عقابًا جماعيًا بحق السكان المدنيين، وترقى إلى جرائم حرب"، مشيرة إلى أن "الأوامر بالإخلاء الجماعي لا تعفي القوة المحتلة من مسؤولياتها في توفير الحماية والرعاية للمدنيين".
صرخة اليونيسف: "أنقذوا المواليد قبل أن يموتوا"
ختمت اليونيسف بيانها بنداء عاجل إلى المجتمع الدولي، جاء فيه:
"كل دقيقة تمرّ في غزة تكلّف حياة طفل. الرضّع يموتون في الحاضنات المظلمة، والأمهات يحتضرن على أبواب المستشفيات التي بلا دواء، آن الأوان لتحرك فوري، فالحياة هنا تتبخر أمام أعيننا."
وأضافت المنظمة إن نحو 20 ألف مولود سيولدون في غزة خلال الشهرين المقبلين، "لكن لا أحد يعرف أين، ولا كيف، ولا إن كانوا سيبقون أحياء".
دعوات عاجلة لوقف النار والمحاسبة
دعت الأمم المتحدة وجميع وكالاتها العاملة في غزة إلى "وقف فوري وشامل لإطلاق النار"، وفتح ممرات آمنة لإدخال المساعدات، وإجلاء الجرحى والمواليد المهددين بالموت.
كما طالبت منظمات حقوق الإنسان الدول الكبرى بوقف دعمها العسكري للكيان الإسرائيلي، والتحقيق في الانتهاكات التي ترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية"، محذرة من أن استمرار الصمت الدولي "يعني التواطؤ في الإبادة".
غزة تختنق.. والعالم يصمت
في الوقت الذي تتواصل فيه الغارات، لا يجد الفلسطينيون في غزة سوى الأنقاض مأوى لهم. المنازل تحوّلت إلى رماد، المستشفيات إلى ساحات للعجز، والمدارس إلى قبور جماعية.
أما "المناطق الآمنة" التي وعد بها الكيان الإسرائيلي، فقد تحولت إلى رموز جديدة للمأساة الفلسطينية، حيث الموت يحوم فوق الخيام، والماء المالح هو الشراب الوحيد المتاح.
وفيما يواصل العالم الاكتفاء بالبيانات الدبلوماسية، يبقى صوت اليونيسف ومنظمات الإغاثة هو النداء الوحيد في صحراء الصمت:
"أنقذوا غزة.. فحتى الولادة أصبحت معركة من أجل البقاء."