الوقت- منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية العدوانية الأخيرة على قطاع غزة وما رافقها من صور مروعة لجرائم القتل الجماعي والتجويع والتدمير، باتت حكومة الاحتلال الاسرائيلي تواجه واحدة من أعقد مراحلها السياسية منذ تأسيسها عام 1948، فالمسألة لم تعد تقتصر على موجات التنديد الشعبي أو بيانات الشجب الدبلوماسية، بل انتقلت إلى مرحلة أكثر عمقاً: عزلة سياسية واقتصادية متنامية تهدد البنية الوجودية للدولة العبرية.
صحيفة معاريف الإسرائيلية نفسها حذرت مؤخراً من أن هذه العزلة ليست مجرد أزمة عابرة، بل قد تتحول إلى تهديد استراتيجي لبقاء الكيان الاسرائيلي إذا استمر في سياساته العدوانية.
إسبانيا.. رياح معارضة من جنوب أوروبا
من أبرز المؤشرات على تصاعد هذه العزلة، الخطوة غير المسبوقة التي اتخذتها الحكومة الإسبانية عبر منع عبور الطائرات والسفن الأمريكية المحملة بالأسلحة إلى الكيان الاسرائيلي عبر قواعد عسكرية تابعة لحلف الناتو في قادش وإشبيلية، صحيفة إلباييس الإسبانية كشفت أن مدريد استخدمت صلاحياتها القانونية الواردة في اتفاقية الدفاع مع واشنطن (1988)، لتمنع مرور شحنات عسكرية مثيرة للجدل إلى كيان الاحتلال الاسرائيلي.
هذا القرار لم يكن معزولاً، بل جاء في سياق متكامل من الإجراءات الإسبانية:
إلغاء صفقات تسليح ضخمة مع شركات إسرائيلية مثل "رفائيل"، تجاوزت قيمتها 600 مليون يورو.
سن قانون يحظر تجارة السلاح مع كيان الاحتلال الاسرائيلي على خلفية ما وصفته مدريد بـ"جرائم الإبادة" في غزة.
ضغوط دبلوماسية داخل الاتحاد الأوروبي لدفع مزيد من الدول لاتخاذ خطوات مشابهة.
إسبانيا إذن لم تكتف بالتصريحات الأخلاقية، بل حولت موقفها إلى سياسة عملية لها أثر مباشر في معادلات الحرب والاقتصاد الإسرائيلي.
أوروبا.. شرايين التجارة تُغلق تدريجياً
الانعكاس الاقتصادي لهذه العزلة لا يقل خطورة، فقد أظهرت بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية انخفاضاً حاداً في صادراتكيان الاحتلال الاسرائيلي إلى الاتحاد الأوروبي:
تراجع الصادرات من 40.8 مليار شيكل (12.3 مليار دولار) عام 2024 إلى 36.8 مليار شيكل (11.1 مليار دولار) في الأشهر الأولى من 2025.
في أغسطس وحده، انخفضت الصادرات بنسبة 25%، وهو رقم غير مسبوق.
صادرات الرقائق الإلكترونية إلى أيرلندا، العمود الفقري للتجارة التكنولوجية الإسرائيلية، انهارت بنسبة تقارب 90% خلال عام واحد.
الأمر لم يتوقف عند الأرقام، بل تعداه إلى تضرر "العلامة التجارية الإسرائيلية"، فقد أكد رئيس اتحاد الصناعيين الإسرائيليين أن شركات أوروبية طلبت إزالة اسم "إسرائيل" من المنتجات خشية مقاطعة المستهلكين، فيما فضلت أخرى إلغاء عقودها بالكامل لتجنب الضغوط الشعبية والإعلامية.
من العزلة الاقتصادية إلى التهديد الاستراتيجي
ما تخشاه "حكومة الكيان الاسرائيلي أكثر ليس الأثر الاقتصادي المباشر، بل تداعياته الاستراتيجية:
خسارة الأسواق الأوروبية التي تُعد ثاني أكبر شريك تجاري بعد الولايات المتحدة.
احتمال تجميد برامج التعاون البحثي والتكنولوجي مع الاتحاد الأوروبي، وهي شريان أساسي لقطاع الابتكار الإسرائيلي.
تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كما حدث مع صندوق الثروة النرويجي الذي استبعد ست شركات إسرائيلية من محفظته لأسباب أخلاقية.
بهذا، تصبح عزلة كيان الاحتلال الاسرائيلي مسألة تهدد نموذجها الاقتصادي القائم على التكنولوجيا المتقدمة والتكامل مع الأسواق الغربية.
تيار سياسي عالمي يتشكل
ما يجري اليوم لا يمكن اختزاله في قرارات متفرقة من مدريد أو أوسلو أو دبلن، نحن أمام تشكل تيار سياسي عالمي يتبنى موقفاً معارضاً متصاعداً تجاه كيان الاحتلال الاسرائيلي، يستند إلى عدة مرتكزات:
المشهد الإنساني في غزة: صور الأطفال الجوعى والبيوت المدمرة صنعت وعياً شعبياً ضاغطاً على الحكومات الغربية.
حركة المقاطعة (BDS) التي عززت قدرتها على تحويل التعاطف الشعبي إلى ضغوط اقتصادية ملموسة.
صعود قوى سياسية يسارية وخضراء في أوروبا تتبنى خطاباً صريحاً ضد الاحتلال، مثل تحالفات في إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا.
تآكل "رواية الضحية" الإسرائيلية في الإعلام الغربي، مع انكشاف ممارسات الاحتلال عبر تحقيقات كبرى مثل تقرير واشنطن بوست عن الجرائم في غزة.
هذا التيار يتغذى على واقع جديد: الكيان الاسرائيلي لم تعد ذلك "الكيان الصغير المحاصر" بل أصبحت في نظر قطاعات واسعة "قوة استعمارية تمارس الإبادة"، وهذا التحول في الوعي السياسي الدولي أخطر من أي خسارة مالية.
كيان الاحتلال الاسرائيلي بين الإنكار والبحث عن بدائل
في مواجهة هذه التحديات، تحاول الحكومة كيان الاحتلال الإسرائيلية اللعب على عدة محاور:
التوجه نحو آسيا لتعويض الأسواق الأوروبية، وخصوصاً الصين والهند وكوريا الجنوبية.
تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، رغم الخلافات حول طرق إمداد الأسلحة.
الرهان على التطبيع العربي لفتح أسواق بديلة، رغم أن معظم اتفاقيات "أبراهام" لا تزال هشة.
لكن هذه البدائل تبدو محدودة؛ فآسيا لا تستطيع تعويض السوق الأوروبية بالكامل، والتطبيع العربي يواجه موجة غضب شعبي عارمة منذ حرب غزة، بينما واشنطن نفسها تجد صعوبة في تمرير صفقات السلاح لـلكيان الاسرائيلي أمام معارضة الكونغرس والرأي العام الأمريكي.
التهديد الوجودي.. ما وراء الاقتصاد
تحذيرات معاريف حول "التهديد الوجودي" للعزلة لا تعكس فقط خسائر اقتصادية، بل تعكس إدراكاً عميقاً لدى النخب الإسرائيلية بأن:
كيان الاحتلال الاسرائيلي قائم على الدعم الغربي السياسي والاقتصادي والأمني، وأي خلخلة في هذا الركن الأساسي تعني اهتزازاً في وجوده.
الضغط الدولي قد يتطور إلى عقوبات رسمية، كما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو النموذج الذي يثير مخاوف تل أبيب بشدة.
تراجع مكانة كيان الاحتلال الاسرائيلي في النظام الدولي قد يفتح الباب لتحديات داخلية، من هجرة العقول والشركات إلى تزايد العزلة الثقافية والدبلوماسية.
من عزلة سياسية إلى نقطة تحوّل تاريخية؟
قد تكون هذه المرحلة بداية لتحول تاريخي شبيه بما حدث لأنظمة استعمارية سابقة. إذا واصل التيار السياسي المناهض لكيان الاحتلال الاسرائيلي التوسع في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، فإن الكيان الاسرائيلي قد يجد نفسه في مواجهة عالم لم يعد يقبل بوجوده.
إسبانيا ليست سوى البداية، وقد تلحق بها دول مثل أيرلندا وبلجيكا والنرويج وربما حتى فرنسا على المدى المتوسط، وإذا اجتمعت هذه المواقف مع ضغوط اقتصادية وتجارية من الاتحاد الأوروبي، فإن حكومة الكيان الاسرائيلي ستدخل مرحلة عزلة شاملة قد لا تكون قادرة على تحملها.
ختام القول
العزلة السياسية والاقتصادية التي تتسع حول كيان الاحتلال الاسرائيلي اليوم لم تعد مجرد "أزمة علاقات عامة"، بل هي تحوّل استراتيجي يمكن أن يهدد وجود الكيان ذاته، اعتراف معاريف بأن هذه العزلة تشكل خطراً وجودياً يعكس حالة القلق العميق داخل المؤسسة الإسرائيلية.
في المقابل، فإن تياراً عالمياً يتشكل ببطء ولكنه بثبات، معارض لسياسات الاحتلال، مدفوعاً بوعي شعبي وأخلاقي متزايد، هذه الرياح القادمة من مدريد وأوسلو ودبلن قد تتحول إلى عاصفة سياسية دولية، تعيد رسم موقع الكيان الاسرائيلي في النظام العالمي، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع لم تعرفها المنطقة منذ عقود.
