الوقت- على سطح سفينة صغيرة في عرض البحر، تتأرجح الحياة كما تتأرجح الأمواج، ليست مجرد سفينة، بل رمز لمعركة أخلاقية وسياسية في آن واحد. فالرحلة التي انطلقت في محاولة لكسر الحصار عن غزة لم تكن مجرد مسعى لإيصال كيس من الطحين أو بعض الأدوية، بل كانت فعلاً احتجاجياً على نظام عالمي يكتفي بالمشاهدة، ويكتفي ببيانات الشجب والتنديد، السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف صار إرسال كيس طحين إلى مدينة محاصرة فعلاً ثورياً يثير ردود أفعال واسعة؟
غزة: معركة صمود تتجاوز الحدود
غزة ليست مجرد مدينة ساحلية صغيرة، بل أيقونة للمقاومة والصمود. منذ سنوات وهي تواجه حصاراً متعدد الأوجه: اقتصادي، سياسي، وعسكري، ومع ذلك، لم تنكسر إرادة سكانها، بل ازدادت عزيمتهم في الدفاع عن حقهم في الحياة والحرية، هنا يتضح جوهر القضية؛ فالمقاومة الفلسطينية في غزة ليست خياراً عابراً أو نزوة سياسية، بل ضرورة وجودية، المقاومة هناك أصبحت صوت من لا صوت له، ولغة من لا يجد منبراً في عالم تحكمه موازين القوى والصفقات الدولية.
العالم أمام مرآة غزة
عندما يصبح توفير أبسط مقومات الحياة عملاً محفوفاً بالمخاطر، فهذا يعكس خللاً عميقاً في النظام الدولي، غزة تكشف هشاشة الشعارات التي يرفعها العالم عن حقوق الإنسان والديمقراطية، إذ كيف يمكن التوفيق بين الحديث عن العدالة والحرية، وبين الصمت أمام حصار يمنع الغذاء والدواء والكهرباء عن أكثر من مليوني إنسان؟ السفينة التي تحمل الطحين ليست مجرد وسيلة نقل، بل مرآة تعكس عجز العالم وتواطؤه.
المقاومة الفلسطينية: فعل إرادة في مواجهة الإبادة
في ظل هذا الواقع، لا يمكن النظر إلى المقاومة الفلسطينية إلا باعتبارها رداً طبيعياً على الاحتلال والحصار، فهي ليست مجرد عمل عسكري، بل تعبير عن إرادة جماعية لشعب يرفض أن يتحول إلى ضحية صامتة، المقاومة في غزة أعادت صياغة المعادلة: فـ"إسرائيل"، رغم تفوقها العسكري والدعم الغربي الهائل لها، لم تنجح في كسر روح الصمود. على العكس، كل عدوان يفتح باباً جديداً أمام إبداع المقاومة وتطوير أدواتها، ويعيد إلى الواجهة مركزية القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية والإسلامية.
السفن الصغيرة والرمزية الكبيرة
المبادرات الشعبية والدولية لإرسال سفن لكسر الحصار تحمل قيمة معنوية هائلة، صحيح أن حمولتها لا تكفي لتغطية حاجات غزة، لكن رمزيتها أقوى من محتواها المادي، هي إعلان رفض جماعي للظلم، ورسالة بأن غزة ليست وحدها، غير أن السؤال المؤلم يظل حاضراً: لماذا تُترك مدينة كاملة لتعيش على المساعدات الرمزية، بينما العالم قادر على وقف الحصار بقرار سياسي واحد؟ هنا تتضح الهوة بين خطاب القيم وبين ممارسات الدول الكبرى، وبين القانون الدولي وبين واقع الهيمنة.
غزة كجرح مفتوح في الضمير العالمي
منذ أكثر من عقد ونصف، وغزة تعيش تحت حصار خانق يجعلها أشبه بسجن كبير، هذا الحصار لم يحقق ما أراده الاحتلال من كسر الإرادة أو دفع الناس للاستسلام، بل العكس تماماً، فقد تحولت غزة إلى جرح مفتوح يذكّر العالم يومياً بعجزه، كل طفل يُحرم من دواء، كل أسرة تعيش في ظلام بسبب قطع الكهرباء، كل بيت يُهدم في العدوان، يصبح شاهداً على انهيار النظام الأخلاقي العالمي. ومع ذلك، فإن غزة تصر على الحياة، وعلى المقاومة، وعلى إرسال رسالة مفادها بأن الحرية أثمن من كل شيء.
المقاومة والبعد الإنساني
المقاومة الفلسطينية ليست فقط مواجهة بالسلاح، بل هي أيضاً مواجهة بالثبات، بالتعليم، بالفن، وبالإصرار على البقاء، غزة تُنتج يومياً صوراً للبطولة الإنسانية التي تكشف أن إرادة الحياة أقوى من القصف والجدران، هذه المقاومة الشاملة، التي تتداخل فيها الأبعاد السياسية والعسكرية والثقافية، تجعل من غزة رمزاً عالمياً لمقاومة الظلم، شأنها شأن كل حركات التحرر التي عرفها التاريخ.
دلالات العجز العالمي
حين يصبح إطعام الجائعين أو علاج المرضى تحدياً يواجه المنع والتهديد، فهذا يفضح بُنية العلاقات الدولية. غزة تكشف أن العالم لا يعاني من نقص الوسائل، بل من غياب الإرادة. هذا العجز ليس تقنياً ولا إدارياً، بل أخلاقي بامتياز، فالدول التي تملك القوة قادرة على فرض قراراتها حين تتعلق بمصالحها، لكنها تتجاهل المأساة حين يكون الضحية شعباً محاصراً لا يملك ثروة أو نفوذاً، هنا بالضبط تكمن أهمية المقاومة: فهي تفضح ازدواجية المعايير وتُعيد التذكير بأن الحق لا يسقط بالتقادم.
غزة والمستقبل
ما يجري في غزة اليوم ليس حدثاً عابراً، بل معركة لها امتدادها التاريخي والمستقبلي. فكل فعل مقاومة هناك يعيد رسم حدود الصراع، ويؤكد أن فلسطين لا يمكن محوها من الخريطة السياسية أو من الذاكرة الجمعية، وغزة تحديداً، برغم معاناتها، صارت مدرسة في الصمود والإصرار، فالأجيال التي تكبر وسط الركام والحرمان، تكبر أيضاً على وعي جديد بالحرية، وهذا ما يجعل من الصعب على الاحتلال تحقيق أهدافه.
كيس الطحين فعل ثوري
الرحلة على متن السفينة المتأرجحة تنتهي عند سؤال مركزي: كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العجز؟ الجواب ليس بسيطاً، لكنه واضح: لأن العالم فقد توازنه الأخلاقي، ولأن القوى المهيمنة اختارت مصالحها على حساب العدالة، ومع ذلك، يبقى في غزة ما يعيد الأمل، فهناك شعب يرفض الاستسلام، ومقاومة تُصر على البقاء، وسفن تبحر رغم المخاطر لتقول إن الحق ما زال حياً، ومن هنا نفهم أن كيس الطحين ليس مجرد طعام، بل فعل ثوري يكسر جدار الصمت، ويُعيد للعالم صورته الحقيقية أمام مرآة غزة.