الوقت - مع بقاء أسبوعين فقط على الانتخابات البلدية في جورجيا (4 أكتوبر/تشرين الأول)، انطلقت موجة جديدة من المسيرات الشعبية، ما وضع هذا البلد القوقازي الصغير مجددًا في قلب التطورات الجيوسياسية.
تعود جذور احتجاجات جورجيا الأخيرة إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عندما أعلنت الحكومة بقيادة حزب "الحلم الجورجي" تأجيل محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028، وقد أثار هذا القرار، الذي خالف إرادة شريحة من السكان في توثيق العلاقات مع أوروبا، غضبًا شعبيًا.
اشتدت الاحتجاجات الأخيرة عندما اتخذت الحكومة، ردًا على الموعد النهائي الذي حدده الاتحاد الأوروبي في 31 أغسطس/آب، والذي حذّر من إلغاء إعفاء مواطني جورجيا من تأشيرة السفر في حال استمرار السياسات الاستبدادية، خطوةً مثيرةً للجدل بتجميد الحسابات المصرفية لعدد من المنظمات غير الحكومية الرئيسية المؤيدة لأوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، أُقرّ قانونٌ يُسمى "قانون الوكلاء الأجانب"، يُلزم المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج بالتسجيل كـ"ممثلين لمصالح أجنبية"، يقول المنتقدون إن القانون أداةٌ للسيطرة على المجتمع المدني، ويشبه إلى حدٍّ كبير القوانين المستخدمة في روسيا لإسكات المنتقدين.
وهكذا، تُعدّ جورجيا اليوم ساحةً تنافسيةً بين تيارين، إذ يسعى الحزب الحاكم إلى إبقاء تبليسي في فلك الشرق من خلال التقرّب من روسيا، بينما تسعى المعارضة إلى تقليل اعتمادها على موسكو ومواءمة تبليسي مع المؤسسات الغربية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
بالنسبة للمعارضة، يُعدّ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مفتاحًا للأمن والتنمية والديمقراطية المستدامة، ولذلك يُنظر إلى تأجيل الحكومة للمفاوضات على أنه علامة على تغيير في التوجه الاستراتيجي للبلاد، وتحاول المعارضة إيقافه بمظاهرات شعبية وإجبار الحكومة على العودة إلى التزاماتها الأوروبية.
تنظيم الغرب للاحتجاجات الجورجية
على الرغم من أن الاحتجاجات في جورجيا تبدو رد فعل وطني ضد سياسات الحكومة، إلا أن طبيعتها تُشبه إلى حد كبير نوع المعارضة التي خطط لها ووجهها الغربيون في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، كما يُظهر نوع رد الفعل من الدول الأوروبية أن الغربيين يحاولون توجيه هذه الموجة المناهضة للحكومة.
في الأسابيع الأخيرة، قدّم الاتحاد الأوروبي وعدة دول أوروبية دعمًا مباشرًا للمتظاهرين، ودعا وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا، في معرض إدانتهم لما أسموه "الاستخدام المفرط للعنف ضد المتظاهرين"، إلى حرية التجمع والإفراج عن نشطاء المعارضة.
كما استهدفت الدنمارك ودول البلطيق ليتوانيا وإستونيا مسؤولين جورجيين بعقوبات، علّقت الولايات المتحدة أيضًا شراكتها الاستراتيجية مع جورجيا بعد أن أجّلت الحكومة الجورجية محادثات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
أدت هذه الإجراءات، إلى جانب الضغوط الإعلامية والدبلوماسية الغربية، إلى تفاقم الأزمة السياسية وتوسيع الفجوة بين الحكومة والمجتمع.
سبق أن تدخل الغرب في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق على شكل ثورات ملونة أو مخملية، وكانت "ثورة الورود" في جورجيا عام 2003، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2005 من أشهر الأمثلة على ذلك، حيث أوصلت حكومات موالية للغرب إلى السلطة بدعم مالي وسياسي غربي.
يعتقد العديد من المحللين الآن أنه نظرًا لأوجه التشابه بين الاحتجاجات الحالية والأحداث الماضية، قد يحاول الغرب مرة أخرى الإطاحة بالحكومة الجورجية الحالية، التي يراها الغرب غير مرغوب فيها نظرًا لسياساتها الأقرب إلى روسيا، من خلال القيام بنوع من "الثورة المخملية".
يُظهر الدعم المباشر من الحكومات الأوروبية والأمريكية للمحتجين أن الهدف الرئيسي للغرب يتجاوز مجرد الدفاع عن الحريات المدنية، إن تسليط الضوء على انحراف حكومة تبليسي عن المسار الأوروبي، وإعطاء وزن لمطالب المعارضة، ومنح وسائل الإعلام الغربية منبرًا لتحريض المتظاهرين، كلها جزء من الضغط الغربي الممنهج.
بالتوازي مع هذه الإجراءات، تُعدّ صور المتظاهرين الذين يحملون أعلام الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في شوارع تبليسي رمزًا واضحًا لارتباط المعارضة بمشروع التغريب في جورجيا، تهدف هذه السياسة إلى إضعاف الحكومة وزعزعة استقرارها، وتوجيه جورجيا نحو أوروبا وحلف الناتو في إطار مسعى للحد من النفوذ الروسي.
على الرغم من أن الاحتجاجات في جورجيا لها جذور محلية وحقيقية، إلا أنه من المستحيل تجاهل حقيقة أن الدعم الغربي حوّل الاحتجاجات فعليًا إلى أداة للضغط الجيوسياسي، وكما يتضح من تجربة الثورات الملونة، فإن استغلال السخط الاجتماعي وتحويله إلى حركة سياسية لتغيير الحكومات هو نمط مألوف لدى الغرب.
ولذلك، يمكن القول إنه في جورجيا اليوم لا تجري فقط مطالب الشعب، بل يجري أيضا سيناريو أكبر يهدف إلى إعادة تصميم الهياكل السياسية لهذا البلد لمصلحة أوروبا وأمريكا وإضعاف أي اتجاه نحو روسيا.
تتمتع منطقة القوقاز بأهمية بالغة للغرب نظرًا لموقعها الاستراتيجي بين أوروبا وآسيا، وخاصةً قربها من روسيا، تُعدّ جورجيا إحدى الدول القادرة على مساعدة حلف الناتو على التقدم شرقًا. إذا مالَت الحكومة المركزية في تبليسي نحو روسيا، فقد يزيد ذلك من نفوذها في المنطقة، ما قد يعيق أهداف الغرب في القوقاز، في وقتٍ بلغت فيه التوترات بين موسكو وحلف الناتو ذروتها.
يرغب جزءٌ من المجتمع الجورجي في التقرّب من أوروبا والانضمام إلى المؤسسات الغربية، هذا ليس مطلبًا ثقافيًا أو هويتياً فحسب، بل هو أيضًا مطلب سياسي، فمن خلال دعم المعارضة، يُمكن للغرب تعزيز شرعية الاحتجاجات الشعبية وزيادة الضغط من أجل الإصلاحات التي يطالب بها الغرب.
ولهذا السبب، عشية الانتخابات المحلية في جورجيا، فتح قرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بالامتناع عن مراقبة عملية التصويت بحجة تأخر إرسال خطاب الدعوة فصلًا جديدًا في التوترات بين تبليسي والغرب، اتهمت الحكومة الجورجية الغرب بمحاولة تشويه الانتخابات وتمهيد الطريق لـ"ثورة" جديدة.
يعتقد بعض المحللين أن هدف الغرب ليس بالضرورة الإطاحة بالحكومة الحالية مباشرةً، بل الضغط عليها للعودة إلى مسار الالتزامات الديمقراطية، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والحفاظ على الحريات المدنية، إلا أن دعم الغرب العلني والسري، وعقوباته، وتركيزه على القضايا الانتخابية والقوانين التقييدية، قد دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الغرب يسعى في الواقع إلى تقوية المعارضة، وتقليص شرعية الحكومة، وإحداث تغيير سياسي، وخاصة إذا استمرت الحكومة الحالية على نهجها الحالي.
على أي حال، فإن تركيز الغرب على حقوق الإنسان، والديمقراطية، وشفافية الانتخابات، وحرية الصحافة، ومنظمات المجتمع المدني، يُعدّ أداةً لتعزيز موقف المنتقدين، لا يعني هذا الدعم بالضرورة انقلابًا أو إطاحةً، ولكنه يُشكّل ضغطًا كبيرًا على الحكومة لتغيير سلوكها.