الوقت- في خطوة أثارت جدلاً واسعًا على الساحة الدولية، أعلنت المملكة المتحدة برئاسة كير ستارمر اعترافها الرسمي بدولة فلسطين في 21 سبتمبر 2025، مصحوبة بمجموعة من الشروط التي توحي بأن هذا الاعتراف ليس إلا مناورة سياسية مشروطة، لا أكثر. ووفقًا لتقارير صحيفة التلغراف، فإن من بين هذه الشروط مطالبة السلطة الفلسطينية بوقف دفع المعاشات لأسر الشهداء والمعتقلين في العمليات ضد إسرائيل، وإجراء تعديلات على المناهج المدرسية التي تُصنّف بأنها "معادية لليهود"، وكذلك إقامة انتخابات فلسطينية جديدة قبل افتتاح السفارة البريطانية أو توقيع أي اتفاقيات دولية. وبينما تبدو هذه الشروط متشددة على الورق، فإنها في الواقع تمثل محاولة واضحة لبريطانيا للضغط على الفلسطينيين، وفرض أجندتها السياسية تحت شعار المبادئ الديمقراطية.
إن مطالبة السلطة الفلسطينية بوقف دفع المعاشات لأسر الشهداء والمعتقلين لا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد دعم للإرهاب، بل هي حقوق اجتماعية أساسية ترتبط بمعاناة حقيقية. ومن شأن تنفيذ هذا الشرط أن يلقي بثقل إضافي على عائلات فقدت أحباءها في ظل ظروف الاحتلال، ليصبح موقف بريطانيا تدخلاً سافرًا في سياسات داخلية لا يحق لها فرضها من الخارج. أما التعديلات المطلوبة في المناهج الدراسية، فهي تعكس محاولة بريطانية لإعادة صياغة الذاكرة الوطنية الفلسطينية، وهو ما يذكر بسياسات تاريخية استعمارية تهدف إلى فرض سرديات خارجية على الهوية الفلسطينية، بدلاً من معالجة جذور الصراع.
وبالنسبة للشرط المتعلق بالانتخابات، فهو أشبه بسلاح لتأجيل أي خطوات دبلوماسية فعلية. فالانتخابات الحرة والشفافة تتطلب مؤسسات قوية، وضمانات لحماية الحقوق السياسية، وحرية حركة المواطنين، وجوًا آمنًا بعيدًا عن الاحتلال والممارسات القسرية. وبالتالي، فإن هذا الشرط يبدو أداة ضغط متقنة تجعل السلطة الفلسطينية عالقة بين الالتزام بشروط بريطانيا وواجبها تجاه شعبها.
الاعتراف البريطاني، رغم رمزيته، يحمل تناقضات واضحة. فمن جهة، يُقدّم على أنه دعم للقضية الفلسطينية، ومن جهة أخرى، يضع الفلسطينيين في موقف خاضع لشروط مسبقة تعرقل قدرتهم على إدارة شؤونهم الداخلية بحرية. والمفارقة أن لندن تفرض هذه الشروط على الفلسطينيين، لكنها لا تتطلب بالمثل إجراءات ملموسة من إسرائيل لضمان حقوق الإنسان، أو إنهاء المستوطنات، أو تسهيل حركة المساعدات الإنسانية، وهو ما يبرز ازدواجية الموقف البريطاني بوضوح.
الخطوة الرمزية لبريطانيا تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية، إذ تواجه حكومة ستارمر ضغوطًا شعبية وحزبية تدفعها لإظهار التزام تجاه القضية الفلسطينية. لكنها في الوقت نفسه تحاول الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل وحلفائها، ما يجعل هذا الاعتراف “المشروط” حيلة دبلوماسية تخدم مصالح لندن أكثر من خدمة الفلسطينيين. وفي الوقت الذي يتطلّع فيه الفلسطينيون إلى خطوات ملموسة لتحسين أوضاعهم المعيشية والسياسية، تأتي الشروط البريطانية لتضعهم أمام معادلة صعبة: إما القبول بشروط تعكس مصالح دولة أجنبية، أو مواجهة عواقب التأجيل في الاعتراف الدولي.
إن ما يجعل هذا الاعتراف هشًا وغير فعّال هو أن الشروط المعلنة تجعل الفلسطينيين يتحملون العبء الأكبر. فالضغط على المسائل الاجتماعية والتعليمية والسياسية الداخلية لا يعالج جذور الصراع، بل يخلق شعورًا بالإذلال والسيطرة الخارجية، ويضعف من شرعية السلطة الفلسطينية أمام شعبها. وبذلك، يصبح الاعتراف البريطاني أكثر قربًا إلى لعبة سياسية، تتقاطع فيها الرمزية مع الضغط، بينما يظل الواقع الفلسطيني عاجزًا عن تحقيق تغيير فعلي ملموس.
من الناحية العملية، يمكن القول إن بريطانيا قد اختارت موقع المعلّق بين القول والفعل، تراوغ في الشرط لتحقيق ما تريد من دعم دولي وداخلي، دون أن تُعرّض مصالحها الاستراتيجية للخطر. هذا النمط من الاعتراف، إذا لم يُدار بحذر، قد يضر بالجانب الفلسطيني أكثر من نفعه، إذ يضع السلطة في مواجهة شعبها ويقوّض من قدراتها على إدارة شؤونها بحرية وفعالية. لندن، إذا كانت جادة في دعم السلام، فعليها أن تبدأ بإجراءات ملموسة تعزز حقوق الفلسطينيين وتحمي كرامتهم، لا أن تُقيدهم بشروط مسبقة تصنع من الاعتراف مجرد عنوان إعلامي، بلا أثر فعلي على الأرض.
في النهاية، يبدو أن الاعتراف البريطاني بفلسطين يندرج ضمن سياسة المزاوجة بين الرمزية والدبلوماسية المشروطة، ما يكشف ازدواجية الموقف البريطاني بوضوح. فبينما يُعلن عن دعم القضية الفلسطينية، تُفرض شروط تقوّض من الفعل السياسي الفلسطيني، وتضع الفلسطينيين تحت ضغط خارجي مباشر. ومن دون خطوات ملموسة تضمن حماية حقوقهم، سيبقى هذا الاعتراف مجرد صورة إعلامية لا أكثر، تتقاطع فيها الرمزية مع المصلحة السياسية، بينما يُحرم الفلسطينيون من أي تغيير حقيقي في حياتهم اليومية وسيادتهم الوطنية.