الوقت- تعيش منظومة الحكم الصهيونية واحدة من أعقد أزماتها السياسية والعسكرية ، حيث تتكاثف الخلافات الداخلية وتتصاعد الانتقادات حتى من داخل صفوفها القيادية. تصريحات يائير لابيد زعيم المعارضة الصهيونية، الأخيرة لم تكن مجرد نقد سياسي عابر، بل شكّلت اعترافًا صارخًا بفشل الحكومة الحالية في تحقيق أي إنجاز يُذكر خلال الحرب المستمرة على غزة.
بعد مرور عام وتسعة أشهر من العمليات العسكرية، بات واضحًا أن الاحتلال يترنح بين هزائم متتالية وفقدان للرؤية الإستراتيجية، في وقت يدفع فيه الجنود والمستوطنون الثمن الأكبر من الخسائر الميدانية والمعنوية. الحرب التي أرادها بنيامين نتنياهو ورقة سياسية للبقاء في السلطة، تحولت إلى مستنقع استنزاف يبتلع هيبة الجيش الصهيوني ويكشف ضعف منظومته الاستخبارية والعسكرية، هذا الاعتراف الداخلي بالفشل، إذا ما قرئ في سياقه، يكشف عمق الأزمة التي يعيشها الكيان، ويؤكد أن حماس، رغم الحصار والعدوان، استطاعت أن تفرض معادلة صمود ومواجهة أربكت الاحتلال وكسرت أوهامه بالتفوق المطلق.
تصدعات في البنية السياسية الصهيونية
أبرز ما كشفته تصريحات يائير لابيد هو الانقسام الحاد داخل البنية السياسية الصهيونية، حيث تحولت الخلافات إلى معارك علنية بين أقطاب الحكم والمعارضة. عندما يقرّ زعيم المعارضة بأن "من لم يستطع هزيمة حماس خلال عام وتسعة أشهر فهو لا يعرف كيف ينتصر"، فإن ذلك يمثل ضربة موجعة لشرعية القيادة السياسية الحالية.
هذه الكلمات لم تصدر من خصوم أيديولوجيين خارج المنظومة، بل من قلب المؤسسة السياسية التي شاركت سابقًا في إدارة الحكم. الحكومة الحالية، وفق وصف يائير لابيد، باتت عاجزة عن اتخاذ قرارات مصيرية، يغيب عنها رئيس وزراء "غائب عن الساحة"، ووزير خارجية "عديم الفائدة"، ووزراء يطلقون تصريحات تعرض الجيش للخطر. هذا التفكك السياسي ليس مجرد مشهد إعلامي، بل هو مؤشر على فقدان الانسجام والقدرة على التخطيط، الأمر الذي ينعكس على الميدان في صورة قرارات مرتجلة وفوضى عملياتية، مثل هذه الانقسامات تُضعف الجبهة الداخلية وتمنح المقاومة الفلسطينية فرصة أكبر لتعميق مأزق الاحتلال.
الفشل العسكري والاستخباري في غزة
لم يعد الفشل الصهيوني في غزة سرًا؛ فاعترافات القيادات السياسية والعسكرية باتت تملأ وسائل الإعلام العبرية. الاحتلال الذي لطالما تفاخر بقدراته العسكرية والاستخباراتية، يجد نفسه اليوم عاجزًا عن تحقيق أهدافه المعلنة، أكثر من 674 يومًا مرّت على احتجاز المقاومة الفلسطينية لأسرى صهاينة في أنفاق غزة، دون أن تنجح الحكومة في تحريرهم أو حتى تحقيق اختراق تفاوضي ملموس.
العمليات العسكرية تحولت إلى حرب استنزاف مكلفة، تستنزف الموارد والجنود دون أي إنجاز إستراتيجي. كما أن الاستخبارات الصهيونية، التي ادعت امتلاك معلومات دقيقة، فشلت مرارًا في رصد تحركات المقاومة أو تدمير بنيتها التحتية، هذا الإخفاق يعكس ضعفًا هيكليًا في فهم طبيعة المعركة مع خصم يعرف أرضه ويقاتل بعقيدة راسخة، كل ذلك يعيد إنتاج المشهد ذاته: حكومة مرتبكة، جيش منهك، وشعب يعيش في ظل تهديد مستمر، بينما تواصل حماس فرض معادلة الردع والصمود.
ارتداد الحرب على الداخل الصهيوني
الحرب على غزة لم تفشل فقط في تحقيق أهدافها، بل ارتدت آثارها السلبية على الداخل الصهيوني بشكل متسارع. الانقسامات السياسية، والخسائر البشرية، والأزمات الاقتصادية، كلها باتت وقودًا لغضب الشارع ضد الحكومة. تصريحا يائير لابيد حول "الكارثة السياسية" و"الهزيمة وراء الهزيمة" لم تأتِ من فراغ، بل تعكس حالة وعي داخل المجتمع الصهيوني بأن هذه الحرب بلا أفق، وأن استمرارها يعني مزيدًا من النزيف. مشاهد القلق المتزايد بين المستوطنين، وانعدام الثقة في القيادة، وانكشاف فشل الجيش أمام المقاومة، تشكّل جميعها بيئة خصبة لانفجار أزمات داخلية قد تعصف بمنظومة الحكم، هذا التآكل في الجبهة الداخلية يمثل مكسبًا إستراتيجيًا للمقاومة الفلسطينية، التي تدرك أن معركتها ليست فقط في الميدان، بل أيضًا في تفكيك الروح المعنوية للخصم وزرع الشكوك في جدوى قيادته السياسية والعسكرية.
المقاومة عنوان الصمود وانكسار الهيمنة الصهيونية
في ظل هذا الواقع الذي يكشف هشاشة المنظومة الصهيونية، تبرز المقاومة الفلسطينية كرمز للصمود والعزيمة التي لا تلين، الحصار والعدوان المستمر لم يفلتا من عزيمة الشعب الفلسطيني، بل زادا من قوته وصلابته في مواجهة آلة الاحتلال التي تعجز عن تحقيق أي نصر حقيقي، المقاومة ليست مجرد عمل عسكري، بل هي رسالة أمل وتحرر، تُعيد تعريف المعركة من الساحة العسكرية إلى ساحات السياسة والإعلام والوعي الشعبي، وهي التي فرضت معادلات ردع جديدة، أجبرت الاحتلال على إعادة حساباته وأظهرت للعالم ضعف منظومته الأمنية والعسكرية، هذا الصمود المتواصل يشكل درسًا واضحًا بأن القوة الحقيقية ليست في التكنولوجيا أو العدد، بل في الإيمان بالقضية والتمسك بحق الأرض والكرامة. المقاومة اليوم هي الحصن المنيع الذي يكسر أسطورة التفوق الصهيوني ويثبت أن إرادة الشعوب الحرة لا تُقهَر.
في النهاية، تصريحات يائير لابيد ليست مجرد مرافعة سياسية ضد خصم داخلي، بل هي شهادة من قلب المنظومة الصهيونية على فشل مشروعها الحربي في غزة. بعد ما يقارب العامين من العدوان، يتضح أن الاحتلال عاجز عن فرض شروطه أو تحقيق أهدافه، بينما تواصل المقاومة الفلسطينية تعزيز قوتها وتوسيع معادلاتها الميدانية والسياسية. الانقسامات الداخلية، الفشل الاستخباري، التراجع العسكري، والتدهور المعنوي، كلها عوامل تشير إلى أن الكيان الصهيوني يعيش أزمة وجودية تتجاوز حدود هذه الحرب. في المقابل، يظهر الشعب الفلسطيني، رغم الجراح والحصار، أكثر تماسكًا وصلابة، مدعومًا بإيمان بعدالة قضيته وبقدرة مقاومته على كسر أسطورة التفوق الصهيوني، هذه الحرب، بكل ما حملته من دمار، ستظل علامة فارقة تثبت أن إرادة الشعوب الحرة أقوى من ترسانة الاحتلال، وأن الكيان مهما امتلك من قوة سيظل عاجزًا أمام عقيدة المقاومة التي لا تعرف الانكسار.