الوقت- على جدران الوعي المتصدع، تنكسر صور البطولة المزعومة، لم تكن المعارك في غزة فقط اختباراً للقوة العسكرية الإسرائيلية، بل كانت في جوهرها اختباراً أقسى لعقل جمعيٍ هش، ولعقيدة مفرغة من المعنى، لا تستند إلى تاريخ حقيقي ولا انتماء صادق للأرض، فحين تكون الحرب نتاج اغتصابٍ لا دفاع، والقتل عنواناً للوجود، فإن السلاح الأشد فتكاً لا يُشهر في الميدان، بل يتسلل خلسة إلى النفوس، محدثاً شروخاً في الداخل لا تداويها مؤسسات الطب ولا أقراص المهدئات.
في عمق الأزمة الإسرائيلية النفسية، يتكشف لنا ما هو أبعد من الإحصائيات: نحن أمام مجتمع بأسره يتداعى تحت وطأة الوعي الجمعي بالذنب، أمام دولة فقدت بوصلتها الروحية لأنها لم تمتلك يوماً عقيدة أخلاقية حقيقية، هنا، في قلب الجبهة الخلفية، لا تسقط القذائف، بل تنهار الأرواح، وتتفكك الأسر، ويتحول الجنود من فخرٍ وطني إلى أشباحٍ تبحث عن مخرج من كوابيس الحقيقة.
المجتمع المريض: الأرقام لا تكذب
منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، لم تعد "إسرائيل" فقط في مواجهة صواريخ المقاومة، بل دخلت نفقاً مظلماً من الأزمات النفسية والاجتماعية، صحيفة يديعوت أحرونوت وصفت الواقع الجديد بعبارة قاسية: "إسرائيل تحولت إلى مجتمع مريض"، رقم واحد فقط كفيل بأن يُظهر حجم الكارثة: أكثر من نصف مليون إسرائيلي طلبوا علاجاً نفسياً منذ بداية الحرب، أي ما يقارب 5% من سكان الكيان.
ولا يقتصر الأمر على المدنيين، بل يمتد إلى من يفترض أنهم مدربون على القتال وتحمّل الصدمات: الجنود، حيث سجّل الجيش الإسرائيلي أن 66 ألف جندي وعائلاتهم طلبوا دعماً نفسياً، بينما أعلنت وزارة الدفاع أن 5200 جندي يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، وهي نسبة مرشحة للارتفاع لتصل إلى مئة ألف شخص في السنوات القادمة.
الانهيار النفسي للجنود: من ميدان القتال إلى عيادات الصدمة
تشير التقارير إلى أن ما يقرب من 15% من الجنود النظاميين الذين خرجوا من غزة تلقوا علاجاً نفسياً، لكنهم فشلوا في العودة مجدداً إلى الخدمة العسكريةـ بعضهم، كما ورد في مكالمات تلقّتها منظمة "أران" للإسعاف النفسي، أعربوا عن ندمهم لعدم الموت في المعركة، في تعبير عميق عن العجز وفقدان المعنى.
صحيفة جيروزاليم بوست بدورها وثقت حالات انتحار بين صفوف الجنود، إلى جانب تفشي أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل الكوابيس، الأرق، التهيّج، والخوف المزمن، ما يجعلنا أمام سؤال حتمي: لماذا هذه الهشاشة؟ هل يتعلق الأمر فقط بفظاعة الحرب، أم إن ثمة فراغاً أخلاقياً داخلياً يجعل الصدمة أعمق مما تبدو؟
عندما تفقد "الدولة" معنى الوطن
خلافاً لما قد يُظن، فإن السبب العميق لانهيار البنية النفسية للمجتمع الإسرائيلي لا يكمن في الحرب ذاتها، بل في غياب الرابط الوجودي بين هذا المجتمع والأرض التي يقيم عليها، الصهيونية، التي قدمت نفسها كمشروع قومي لليهود، لم تكن سوى عقيدة وظيفية، قائمة على اغتصاب الأرض وتزييف التاريخ، دون عمق روحي أو انتماء عضوي حقيقي للمكان، ولذلك، فإن الحرب التي قد تعزز انتماء الشعوب لوطنها، كانت على العكس تماماً محفزاً لانكشاف الغربة المزمنة التي يشعر بها الإسرائيليون على هذه الأرض.
فالإسرائيلي، حين ينظر من حوله، يعلم جيداً أنه غاصب، وأن تاريخه هنا ليس سوى كذبة مكررة، وأن دماء الفلسطينيين التي سالت تحت دباباته، لا تبني له شرعية، بل تسحب البساط من تحت أقدامه، ومن هنا تتولد الأعراض النفسية: القلق، الذنب، الخوف، الانعزال، كلها مؤشرات على ضمير مأزوم، يعرف أنه يعيش على أرض ليست له.
الدوامة النفسية الجماعية: شعب يبحث عن مخدر للهروب
أرقام أخرى كشفت عنها مؤسسات رسمية في الكيان تؤكد حجم الانهيار النفسي:
منظمة "أران" تلقت أكثر من 300 ألف مكالمة استغاثة نفسية، منها 40 ألفاً من الجنود، و58 ألفاً من المراهقين.
جمعية "سحر" سجلت ارتفاعاً بنسبة 430% في مكالمات المراهقين على خطوط المساعدة النفسية.
وزارة الصحة سجلت دخول 3200 شخص شهرياً لمستشفيات الطب النفسي.
صندوق التأمين الصحي كشف عن ارتفاع بنسبة 150% في طلبات العلاج من نوبات الهلع.
مؤسسة التأمين الوطني أعلنت إصابة 65 ألف إسرائيلي بأعراض نفسية وعصبية، كثير منهم في حالة عجز عقلي تام.
وبالإضافة إلى ذلك، ظهرت أمراض نفسية نادرة مثل "متلازمة القلب المكسور"، وزاد الإقبال على الفيتامينات المهدئة بنسبة 31%، فيما تضاعف استهلاك الكحول والأدوية النفسية.
من الاحتلال إلى الانهيار الداخلي: لماذا لا يستطيع الإسرائيلي تحمّل الحرب؟
الحرب، في المفهوم الصهيوني، كانت دوماً أداة للهيمنة، لا للبقاء، لكن حين تحوّلت غزة إلى مستنقع يبتلع الجنود، ويُعيدهم إلى أهاليهم أشباحاً، تغيّرت معادلة الصدمة، فالعقيدة العسكرية التي بُنيت على القوة لم تصمد أمام جدران الأنفاق، والروح القتالية التي تصنعها المقاومة.
ولأن الإسرائيلي لم يأتِ إلى هذه الأرض بحلمٍ حضاري، بل جاء بخطة وظيفية، فإن فقدان الإحساس بالأمان، والشكّ في جدوى المشروع الصهيوني، يجعله أكثر عرضة للانهيار العقلي، هو لا يدافع عن بيت بناه بعرق آبائه، بل يحرس مستوطنة سرقها، ومجتمعاً هشاً يقوم على القلق والخوف والتفوق الزائف.
الكوابيس القادمة: مجتمع بلا مستقبل
ربما تكون الأرقام أكثر وضوحاً حين نعلم أن ثلث النساء الإسرائيليات اللواتي أنجبن أثناء الحرب أبلغن عن اكتئاب ما بعد الولادة، وأن 73% منهن يعشن في حالة توتر دائم. في ذات الوقت، 45% من الإسرائيليين يعانون من ضعف في القدرة على مواجهة الحياة اليومية، وأجل 20% منهم مواعيد الأطباء خوفاً من الخروج.
أما على المستوى الوجودي، فإن 20% من الإسرائيليين أرجؤوا خطط إنجاب الأطفال أو توسعة أسرهم، المجتمع الذي يُفترض أنه يحتفل بـ"الاستقلال"، يعيد النظر حتى في أبسط رموز الاستمرارية: الولادة.
ختام القول لم تكن الحرب على الفلسطينين في أرضهم يوماً ساحة للمواجهة العسكرية فحسب، بل هي أيضًا مرآة تفضح الداخل الإسرائيلي، لم تسقط فقط منظومة الردع، بل تهاوت معها أسطورة المجتمع الصلب، وما نراه اليوم ليس مجرد أزمة صحة عقلية طارئة، بل إفلاساً وجودياص لمشروع بُني على كذبة، وحين يفقد المجتمع عقيدته الأخلاقية، وتتحوّل رواية الحق إلى أداة قتل، تنشأ من بين جنباته أعراض الجنون، والفقد، والانفصال. وربما، وللمفارقة، تكون هذه الصدمات النفسية الجماعية هي أول علامات انهيار الرواية الصهيونية من الداخل، حيث لا يمكن لعقلٍ مذنب أن يصنع وطناً، ولا لمغتصب أن ينعم بالسلام، لا مع الآخر، ولا مع نفسه.