الوقت - تجسّد العلاقات بين سلطنة عُمان والجمهورية الإسلامية الإيرانية نموذجاً فريداً في فضاء إقليمي تعصف به التحديات، ففي نسيج العلاقات بين هذين البلدين المتجاورين، تتمازج الاعتبارات التاريخية بالمصالح الجيوسياسية، وتمتد جذور علاقاتهما الوثيقة عبر قرون من التفاعلات الحضارية والبحرية والثقافية، وليست العلاقة بين إيران وعُمان وليدة لحظةٍ عابرة أو محض تقاطع مصالح مرحلي، بل هي نسيج متين أُسِّس على دعائم التفاهم المتبادل والتقارب الجغرافي والتواصل الإنساني العميق.
الحياد، تراث عُماني أصيل
منذ انبثاق الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وفي خضم المناخ الإقليمي العربي المتشكل بقيادة الولايات المتحدة ضد إيران، اختطت سلطنة عُمان لنفسها مساراً مخالفاً للتيار السائد في محيطها، وآثرت مواصلة نهج التقارب مع طهران، ولم يكن هذا المسلك مجرد خيار دبلوماسي عابر من جانب السلطنة، بل كان تجسيداً لرؤية استراتيجية راسخة تؤمن بجدوى الحوار وأهمية توطيد العلاقات مع الجيران، وترى في التوازن والاعتدال ركائز للقوة الحقيقية، وقد تجلت هذه الرؤية الثاقبة في صون مكانة مسقط كوسيط محل ترحيب وقبول من جميع الأطراف في المنطقة.
تأسست السياسة الخارجية العُمانية تاريخياً على مبدأ الحياد الإيجابي، والترفع عن أتون المنافسات الإقليمية، والانخراط في المساعي التوفيقية، وإيجاد فضاءات رحبة للحوار البناء، وعبر هذا النهج الرصين، ارتقت عُمان لتصبح منصةً دبلوماسيةً موثوقةً، وقد برز هذا الدور المحوري بجلاء في الملف النووي الإيراني، حيث احتضنت مسقط على امتداد سنوات عديدة جولات من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في الفترة بين عامي 2012 و2025، كان آخرها ما شهده الأسبوع المنصرم.
الركيزة الاقتصادية في العلاقات بين البلدين
لا تقتصر أواصر العلاقات بين عُمان وإيران على المجال السياسي والدبلوماسي وحسب، بل تمتد لتشمل الميدان الاقتصادي أيضاً، رغم أن النصيب الاقتصادي في نسيج العلاقات بين البلدين ظل متواضعاً حتى الآن، ويُرتقب، في ضوء المشاريع المطروحة، ولا سيما مشروع خط أنابيب الغاز الممتد من شواطئ إيران إلى ميناء صحار العُماني، أن يتعاظم الشق الاقتصادي في منظومة العلاقات بين البلدين.
هذا المشروع الطموح، الذي تبلورت فكرته في عام 2003، ظل معلقاً بين الإرادة السياسية للبلدين من جهة والقيود الدولية من جهة أخرى، وخاصةً العقوبات المفروضة على طهران، وعلى الرغم من إحيائه مراراً في محطات مختلفة، فإنه لا يزال يواجه عقبات تقنية ومالية وجيوسياسية تحول دون تنفيذه، ومع ذلك، يمثّل هذا المشروع فرصةً ثمينةً لتحويل سلطنة عُمان إلى مركز إقليمي مرموق لتسييل وتصدير الغاز، مستفيدةً من بنيتها التحتية المتطورة وموقعها الجغرافي الاستراتيجي.
كما أنه، في ظل القيود المفروضة على الصادرات بسبب العقوبات الدولية، يفتح هذا المشروع لإيران منفذاً اقتصادياً واعداً، ويدشّن آفاقاً رحبةً لإدماج الغاز الإيراني في الأسواق العالمية. وسيتيح خط أنابيب الغاز الإيراني المتجه صوب عُمان، إمكانية توسيع الشبكة مستقبلاً لتشمل وجهات إقليمية أخرى والهند.
استناداً إلى تقارير المصادر الرسمية في إيران، بلغ الميزان التجاري الإيراني مع عُمان في العام المنصرم 764 مليون دولار إيجابي؛ بينما كان هذا الرقم 570 مليون دولار في عام 2023، وتبلغ حصة عُمان في إجمالي صادرات إيران 2.68٪، وفي إجمالي وارداتها 1.08٪، تكشف هذه الأرقام أنه رغم المنحى التصاعدي الذي شهدته العلاقات التجارية بين إيران وعُمان في السنوات الأخيرة، إلا أن الروابط الاقتصادية بين الطرفين لا تزال دون المأمول.
وتكمن أهمية عُمان كشريك تجاري لإيران ليس فقط في كونها بوابةً للولوج إلى أسواق الخليج الفارسي وأفريقيا، بل أيضاً لما تتميز به من بيئة أعمال مواتية وسياسات داعمة تنتهجها الحكومة العُمانية.
البعد الثقافي في العلاقات الإيرانية العُمانية
لعل ما يضفي طابعاً استثنائياً على العلاقات العُمانية الإيرانية، هو البعد الثقافي والإنساني النابض في وشائج العلاقات بين البلدين، حيث يتعانق تاريخ عُمان وإيران في نسيج بديع من القيم والتقاليد والتفاعلات الشعبية، وخاصةً في المناطق الساحلية مثل محافظة مسندم، فلقد أسهمت التبادلات الثقافية والزيارات الشعبية عبر ضفتي الخليج الفارسي، في خلق فضاء رحب من التفاهم والتقارب بين شعبي البلدين، وهذا الجانب من العلاقات يسمو فوق حدود الاتفاقيات السياسية المجردة.
دلالات زيارة بزشكيان إلى مسقط
في خضم الظروف الراهنة، تكتسي زيارة “مسعود بزشكيان”، رئيس الجمهورية الإيرانية، إلى سلطنة عُمان أهميةً بالغةً، إذ تأتي في مفترق طرق إقليمي دقيق، وتشير التقارير إلى أن هذه الزيارة ستتناول جملةً من القضايا المحورية، تشمل سبل تعزيز التعاون الثنائي، ومستقبل مشروع الغاز الاستراتيجي، ومستجدات الأوضاع في اليمن وسوريا، وآفاق علاقات إيران مع القوى الدولية في الغرب، وتجسّد هذه الزيارة المرتقبة تجديداً للثقة المتبادلة بين طهران ومسقط، وتؤكد الرغبة المشتركة في صون وتوطيد علاقة مستدامة ومثمرة.
العمق الاستراتيجي للعلاقات بين ضفتي الخليج الفارسي
عند سبر أغوار العلاقات العُمانية الإيرانية، لا يمكن إغفال البعد الاستراتيجي لمضيق هرمز، ذلك الشريان الحيوي للطاقة العالمية والميدان المشترك للتعاون الأمني بين البلدين، فقد أبدت طهران ومسقط التزاماً راسخاً بتأمين سلامة الملاحة البحرية والتنسيق لمجابهة التهديدات العابرة للحدود، سواء أكانت قرصنة بحرية أم توترات عسكرية.
وفي جوهر الأمر، يمكن القول إن العلاقات العُمانية الإيرانية تقوم على أسس متينة من العقلانية والاحترام المتبادل والتفاهم العميق، متجاوزةً الشعارات الآنية أو المواقف العابرة، إنها علاقة تقف عند مفترق طرق استراتيجي، تسعى من خلاله سلطنة عُمان إلى تحقيق التوازن الدقيق بين صون مصالحها السيادية، والوفاء بالتزاماتها الدولية في دور الوسيط النزيه.
تدرك عُمان بعمق حاجتها الماسة إلى استتباب الاستقرار والهدوء في مضيق هرمز الاستراتيجي، وفي ظل هذه المعطيات، تؤثر معالجة التحديات القائمة بين جارتها الشمالية، إيران، والولايات المتحدة عبر قنوات الحوار البناء، كي يظل شريان هرمز الاستراتيجي ينبض بالحياة والاستقرار.