الوقت- في صمت العالم وعجز القانون، تتكرر في غزة جريمة لا يمكن وصفها إلا بالإبادة الجماعية المنظمة، جريمة تهدف إلى أكثر من مجرد القتل، إذ تسعى إلى طمس الوجود الفلسطيني من جذوره، من خلال محو العائلات بأكملها من السجل المدني، وتحويل الأطفال إلى ناجين وحيدين يواجهون الحياة دون عائلة، ودون مستقبل واضح، في هذه البقعة الصغيرة المحاصرة منذ سنوات، يتجلى أبشع أنواع الجرائم ضد الإنسانية، حيث لا يُقتل أفراد فحسب، بل يُقتل التاريخ والهوية، ويُمحى الامتداد الاجتماعي والثقافي للشعب الفلسطيني.
إبادة موثّقة بالأرقام: العائلة الفلسطينية تحت المقصلة
حسب ما صرّح به مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الدكتور إسماعيل الثوابتة، فإن الاحتلال الإسرائيلي ارتكب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 12 ألف مجزرة، منها قرابة 11,926 مجزرة استهدفت العائلات الفلسطينية تحديدًا، هذا الاستهداف لم يكن عشوائيًا أو عرضيًا، بل كان ممنهجًا، يهدف إلى محو العائلة كوحدة أساسية في المجتمع الفلسطيني.
أكثر من 2200 عائلة محيت بالكامل من السجل المدني، أي إن جميع أفرادها، من الجد إلى الرضيع، استُشهدوا، ولم يتبق من آثارهم سوى أسماء محفورة على جدران الألم، عدد الشهداء ضمن هذه العائلات تجاوز 6350 شخصًا، بينما سُجلت 5120 عائلة لم يتبق منها سوى فرد واحد فقط، ما يعني أن أكثر من 9350 إنسانًا فقدوا حياتهم من هذه الأسر، ليعيش الباقي في عزلة وجودية قاسية.
الناجي الوحيد: صورة حية للكارثة
تكررت في غزة مأساة "الناجي الوحيد"، حيث يُسحب من تحت الأنقاض طفل أو عجوز نجوا بأعجوبة من قصف إسرائيلي طال منزلهم، ليجدوا أنفسهم فجأة بلا أب ولا أم، بلا إخوة ولا أخوات، بلا أمل، يقول المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل: إن هذه الظاهرة تتكرر يوميًا، وتنقل وجعًا إنسانيًا لا يمكن أن يُمحى، ويضيف: "إننا أمام مشهد محزن للغاية؛ امرأة تبلغ من العمر 70 عامًا، جلست في مستشفى المسنين، فقدت كل من كان معها، لم يتبق لها أحد".
إنها صورة تعكس حجم المأساة التي يعيشها قطاع غزة، حيث لا يقتصر الموت على فقدان الحياة، بل يمتد إلى تهشيم النسيج الاجتماعي، وخلق فجوة وجودية عميقة لا تلتئم.
البعد الديموغرافي: محاولة ممنهجة لطمس الهوية الفلسطينية
لا يمكن فصل هذه الجرائم عن بعدها الديموغرافي العميق، حين يُمحى هذا العدد الهائل من العائلات من السجل المدني، فإننا لا نتحدث عن قتل أفراد فحسب، بل عن تهديد مباشر لبقاء الشعب الفلسطيني ككيان اجتماعي وثقافي وتاريخي، فالعائلة في المجتمع الفلسطيني تمثل اللبنة الأساسية للنسيج الوطني، وهي الحاضنة للثقافة، واللغة، والهوية، والذاكرة الجماعية.
يرى مراقبون أن سياسة استهداف العائلات ليست محض صدفة، بل جزء من مشروع استيطاني إسرائيلي قديم يهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في غزة ديموغرافيًا، سواء عبر التهجير، أو القتل، أو كسر إرادة البقاء، ويدعم هذا الطرح حجم الإصرار الإسرائيلي على تدمير التجمعات السكنية الكبيرة، والمجازر المتكررة في مخيمات اللاجئين المكتظة.
عقيدة الانتقام وشطب الأسر المقاوِمة
حسب ما أكده الخبير الأمني والعسكري أسامة خالد، فإن هذا النهج الدموي يعكس سياسة إسرائيلية ممنهجة، تقوم على الانتقام من العائلات التي احتضنت فكريًا واجتماعيًا وفعليًا قادة المقاومة الفلسطينية، ولأن العائلة الفلسطينية تمثل في كثير من الأحيان نواة العمل الوطني، فإن "إسرائيل" تسعى إلى القضاء على هذا الامتداد من خلال "استئصال الأصل"، بمعنى قتل الأب والأم والأبناء.
ويشير خالد إلى أن العديد من العائلات الكبيرة كانت تسكن معًا، إما في بناء واحد أو في مجمع سكني مشترك بسبب ظروف النزوح الداخلي والدمار، ما يجعل استهدافهم أسهل، فيقصف الاحتلال المبنى السكني بأكمله، ليقتل عشرات الأفراد دفعة واحدة، دون تمييز، ودون اكتراث.
استهداف الصحفيين وعائلاتهم: جزء من الخطة
لم يسلم الصحفيون الفلسطينيون من هذا النهج، بل على العكس، فإن من أبرز سمات العدوان الحالي على غزة هو استهداف الصحفيين وعائلاتهم بشكل مباشر، الصحفي هائل النجار، الذي قُتل في مايو الماضي، تبعه بعد أيام مقتل عائلته المكونة من ستة أفراد، من بينهم ثلاثة أطفال.
كما قضت الصحفية وفاء العديني، وزوجها، وابنتها، وابنها، في قصف استهدفهم في دير البلح، وبلغ عدد الصحفيين الذين قُتلوا في هذه الحرب حتى الآن 174 صحفيًا، في استهداف واضح يهدف إلى إسكات الصوت الفلسطيني، ومنع توثيق الجرائم، وطمس الحقيقة.
المتحدث باسم الدفاع المدني يؤكد أن "العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً"، وأن "استهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي".
الصمت الدولي والتواطؤ المخزي
في مقابل كل هذه الفظائع، يقف العالم عاجزًا، إن لم نقل متواطئًا، فبينما تُنتهك كل المعاهدات الدولية والقوانين الإنسانية، لا نجد أي تحرك حقيقي من المجتمع الدولي لوقف هذه المجازر أو محاسبة مرتكبيها.
لقد فشل مجلس الأمن في إصدار قرار ملزم لوقف إطلاق النار، واكتفت المؤسسات الحقوقية الدولية ببيانات إدانة لا تغير من الواقع شيئًا، أما المحكمة الجنائية الدولية، فحتى اللحظة لم تُصدر مذكرات توقيف حقيقية ضد قادة الاحتلال، رغم وجود أدلة موثقة على ارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
إن هذا الصمت الدولي لا يعكس فقط عجزًا سياسيًا، بل يمثل تواطؤًا فعليًا مع الجريمة، وهو ما يسمح بتكرارها يومًا بعد يوم، ويعزز شعور الفلسطينيين بأن دمهم مستباح في عرف العالم.
المجازر بالأسماء والتواريخ: ذاكرة لا تُنسى
بين آلاف المجازر التي وقعت، يمكن التوقف عند عدد من الأمثلة التي تلخص هول الجريمة:
مجزرة عائلة أبو دقة في خانيونس، حيث قُتل أكثر من 40 فردًا من نفس العائلة في قصف استهدف منزلهم.
مجزرة عائلة البطش في جباليا، حيث قضى أكثر من 30 شخصًا، من بينهم أطفال ونساء.
مجزرة مدرسة الفاخورة التابعة للأونروا، التي تحولت إلى مركز إيواء، فتم قصفها ليلًا، ما أسفر عن مقتل عشرات العائلات النازحة.
مجزرة رفح الأخيرة، التي استُخدمت فيها قنابل فراغية وأخرى محرمة دوليًا، وأدت إلى مقتل المئات، بينهم عائلات كاملة كانت قد نزحت من مناطق سابقة، والكثير الكثير..
نحو محاسبة دولية وعدالة مفقودة
ما يحدث في غزة اليوم لا يمكن أن يُترك دون محاسبة، فالأرقام لا تكذب، والدماء لا تُمحى بالصمت، والعدالة لا تسقط بالتقادم، إن قتل 53,339 فلسطينيًا، بينهم آلاف العائلات التي أُبيدت من جذورها، يجب أن يدفع العالم إلى التحرك الفوري لمحاكمة قادة الاحتلال، والتوقف عن منحه الغطاء السياسي والعسكري.
المطلوب اليوم ليس فقط وقف إطلاق النار، بل تشكيل لجان تحقيق دولية مستقلة، وتوثيق كل جريمة، ورفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية، ودعم الناجين نفسيًا واجتماعيًا وماديًا، لأن ما جرى تجاوز حدود المعقول والإنساني.
في ختام القول إن ما يحدث في غزة يتجاوز القتل الفردي أو الجماعي، إنه قتل للأمة الفلسطينية، وتدمير مقصود لهويتها ونسيجها الاجتماعي، فحين تُمحى آلاف العائلات من السجل المدني، وتُقتل الحاضنات الاجتماعية والفكرية للمقاومة، ويُستهدف الأطفال بشكل ممنهج، فنحن أمام محاولة جذرية لاجتثاث الوجود الفلسطيني نفسه.
وفي ظل هذا الجحيم، يبقى الأمل معقودًا على صمود الشعب الفلسطيني، وعلى صحوة الضمير الإنساني، مهما تأخرت، لأن ما يُرتكب في غزة اليوم يجب أن يُسجّل في التاريخ، لا كجريمة بحق شعب، بل كجريمة بحق الإنسانية كلها.