الوقت- في تطوّر أمني لافت، أقدم مقاتلون تابعون لتنظيم "داعش" على تنفيذ عملية نوعية استهدفت ما وصفوه بـ"نظام الشرع المرتد" التابع لـ "هيئة تحرير الشام" في محافظة إدلب شمال غرب سوريا، في خطوة تمثل أول إعلان مباشر من التنظيم عن توجيه عملياته نحو الهيئة التي يقودها أبو محمد الجولاني، وقد بثّ التنظيم رسالة مسجّلة تحت عنوان "جنود الخلافة في الشام يهاجمون نظام الشرع المرتد في إدلب"، حاملةً في طياتها تحوّلاً نوعياً في مسار الصراع بين الطرفين.
هذا الإعلان تزامن مع عودة نشاط بعض خلايا التنظيم في مناطق تعتبر محصّنة أمنياً وتخضع لحكم الهيئة، الأمر الذي طرح علامات استفهام جدية حول مدى صلابة القبضة الأمنية للجولاني، وكذلك عن العوامل التي دفعت تنظيم "داعش" لاختيار هذا التوقيت تحديداً لإظهار نفسه في "مملكة الجولاني".
لماذا قرر تنظيم "داعش" فتح الجبهة ضد الجولاني الآن؟
من الناحية العقائدية، ينظر تنظيم "داعش" إلى هيئة تحرير الشام باعتبارها جماعة "مرتدة" خرجت عن منهج "الجهاد الصحيح"، على حد وصف أدبياته، وازدادت هذه النظرة حدة بعد التغييرات التي تبنتها الهيئة خلال السنوات الأخيرة، من محاولات تأسيس "حكومة إنقاذ" مدنية، إلى إقامة محاكم شرعية تخضع للسلطة الإدارية بدلاً من السلطة الجهادية، فضلاً عن سعيها لتقديم نفسها كقوة معتدلة تصلح للتفاوض أو الاندماج في معادلات سياسية إقليمية.
ويبدو أن التوقيت ليس عبثياً، بل مدروساً بدقة، فتنظيم "داعش" يعاني من تراجع كبير في معاقله التقليدية في البادية السورية، نتيجة ضربات مكثفة من التحالف الدولي وقوات النظام، من هنا، يبدو أن التنظيم أراد إيصال رسالة بأنه لا يزال قادراً على الحركة والضرب حتى في عمق مناطق تسيطر عليها فصائل معادية له أيديولوجياً وتنظيمياً، وعلى رأسها الهيئة.
ظهور الخلايا النائمة: ضربة لهيبة "الجهاز الأمني" للهيئة؟
منذ عام 2017، ركزت هيئة تحرير الشام جهداً كبيراً على تفكيك خلايا تنظيم "داعش" في إدلب، ونجحت في اعتقال وقتل عدد من كبار قادته المحليين، حتى إن الجولاني نفسه أشرف على حملات أمنية ضد التنظيم، في إطار ما وصفه بـ "تنظيف المحرر من الخلايا المفسدة".
لكن إعادة ظهور خلايا "داعش" اليوم، رغم الرقابة المشددة، يكشف وجود ثغرات أمنية حقيقية، وقد يشير إلى خلل في شبكة الرقابة والسيطرة، ورغم أن الهيئة قد تنجح في وأد هذه التحركات بسرعة، إلا أن الرسالة التي أراد التنظيم إيصالها قد وصلت بالفعل: التنظيم موجود، ويتحين الفرصة للضرب من داخل قلب "إمارة إدلب".
كما أن هذا الظهور قد يعزز شعوراً متنامياً داخل الأوساط الجهادية بأن الجولاني لم يعد قادراً على احتواء كل الأطياف، وأن مناخ "اللاعدالة" الذي يتهم به الجهاز الأمني للهيئة يُنتج بيئة خصبة للتمرد والانشقاق.
من يستجيب لنداء "داعش" في إدلب؟
رغم الانهيارات الكبرى التي مُني بها تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، لا تزال له جاذبية فكرية وتنظيمية لدى بعض الشرائح، وخاصة أولئك الذين يرون أن مشاريع الفصائل المحلية (كهيئة تحرير الشام أو الجيش الوطني) قد انحرفت عن مبادئ الجهاد، أو تم إخضاعها لأجندات إقليمية.
في هذا السياق، يُحتمل أن يكون لفلول المقاتلين الأجانب وخاصة الذين لم يندمجوا في الأجسام العسكرية أو السياسية المحلية قابلية للانخراط مجدداً في خلايا التنظيم، هؤلاء غالباً ما يشعرون بالتهميش والخذلان، وقد يرى بعضهم في "داعش" ملاذاً للانتقام أو استمراراً لمسار "الجهاد" الذي يؤمنون به.
كذلك، فإن بعض العناصر الفارّة من مناطق النظام، أو من الفصائل المهزومة، قد تنجذب للانضمام إلى "داعش"، وخاصة إذا قدم نفسه كقوة ثأرية لا تعترف بالحدود أو التسويات.
هل نرى عودة "خلافة الظل" في إدلب؟
ليس من المتوقع أن يعيد تنظيم "داعش" السيطرة المكانية كما فعل عام 2014، ولكن ما يُقلق هو احتمال استنساخ نموذج "خلافة الظل"، أي البنية اللامركزية المعتمدة على خلايا صغيرة تتحرك بسرية وتضرب بأدوات بسيطة: عبوات ناسفة، اغتيالات، كمائن، إعلام تحريضي، هذا النموذج أثبت فعاليته في مناطق مثل دير الزور والبادية، والآن يبدو أن التنظيم يسعى لتفعيله في إدلب أيضاً.
وتشير الرسائل الإعلامية الأخيرة إلى أن التنظيم يراهن على عنصر "الزمن" وصبر "الاستنزاف"، لا على السيطرة السريعة، أي إنه قد يسعى لتحويل إدلب إلى ساحة صراع داخلي بين "المرتدين"، على حد تعبيره، من أجل ضرب الهيئة من داخلها وليس عبر معارك مباشرة واسعة.
الجولاني في مأزق مزدوج: حماية "شرعية" هشة ومواجهة عداء عقائدي
بات الجولاني اليوم في موقع بالغ الحساسية: فهو مطالب بالحفاظ على صورة القوة والسيطرة داخل إدلب، ولا سيما في ظل التحديات السياسية والضغوط التركية والاقتتال الفصائلي، لكنه في الوقت ذاته يواجه خصماً لا يعترف بقواعد اللعبة، ولا يخضع لخطوط حمراء.
كما أن الشرعية التي يحاول الجولاني تأسيسها عبر حكومة الإنقاذ، ومنظومة القضاء، والتحكم بالمساعدات أصبحت الآن هدفاً مباشراً لهجوم تنظيم "داعش"، ما يُجبره على الموازنة بين القمع الأمني وتفادي انفجار داخلي شعبي أو جهادي.
إلى أين يتجه الصراع؟
تشير المعطيات الحالية إلى أن المشهد مرشح لمزيد من التصعيد، ولو على شكل عمليات خاطفة أو اغتيالات، وليس معارك مفتوحة، وإذا فشلت الهيئة في سد الثغرات الأمنية، فقد تجد نفسها أمام نمط من الاستنزاف يشبه ما واجهه النظام السوري السابق مع "داعش" في البادية.
ومع تعقّد المشهد الإقليمي، وبقاء إدلب خارج أي تسوية سياسية شاملة، فإن التنظيمات المتشددة ستظل تستغل هذا الفراغ، وتناور على هشاشة التحالفات واحتقان القواعد الشعبية.
في النهاية، فإن صراع "الجولاني – داعش" ليس مجرد مواجهة بين فصيلين مسلحين، بل هو صراع بين مشروعين مختلفين في طبيعة السلطة، ومستقبل "التحرير"، وطريقة التعامل مع العالم، وما لم يُعالج جذرياً، فإن إدلب قد تتحوّل من جديد إلى مسرح للفوضى متعددة الرؤوس.