الوقت- التحرّك الأمريكي نحو العراق يبدو مريباً، بل أكثر من ذلك. فبعد الوعيد والتهديد الذي أطلقه مرشح الرئاسة الأمريكية، الرئيس، دونالد ترامب، إزاء سياسة بلاده تجاه العراق، وتجاه العراق نفسه الذي وصفه بـ"هارفارد للإرهاب"، وكذلك إشادته بصدّام حسين، وبأن غزو العراق "قد يكون أسوأ قرار" في تاريخ الولايات المتحدة، تغيّر المشهد كثيراً.
العراق، بات مفتوحاً على "الفردوس" الأمريكي، يُستثنى العراق، بقدرة قادر من قانون منع الهجرة، ليخرج العراقيون من خلال إعلان الإدارة الأمريكية للأمر التنفيذي الثاني للرئيس ترامب، من قائمة المحظورين من دخول أمريكا.
ترامب يتراجع عن كلامه السابق بغزو العراق، مؤكداً خلال لقائه مع رئيس حكومة العراق حيدر العبادي، أنه كان على أمريكا ألا تسحب جيشها من العراق أبداً، فماذا تريد أمريكا ترامب من العراق والعراقيين؟
تراجع أمريكي
يبدو التراجع الأمريكي وتملّق بغداد واضحاً في موقف عدّة، نذكر منها:
أوّلاً: ملف الهجرة. فبعد مشاورات البيت الأبيض مع وزارتي الخارجية والدفاع، عمد ترامب إلى حذف العراق من اللائحة السوداء التي وضعتها واشنطن وشملت سبع دول مسلمة.
ثانياً: تفاصيل لقاء ترامب مع العبادي وكلامه عن العودة إلى العراق. فقد جاء في البيان المشترك الذي عقب اللقاء تأكيد على "التزامها (أمريكا) مع العراق بشراكة شاملة تقوم على الاحترام المتبادل في ضوء اتفاقية الإطار الاستراتيجي العراقية-الأمريكية التي تحدد اطر التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية".
ثالثاً: التملّق الأمريكي للعراق. وهنا نشير إلى البيان نفسه الذي جاء فيه: "حرص ترامب على استضافة رئيس الوزراء العبادي في البيت الأبيض ضمن أوائل رؤساء العالم تثميناً لدور العراق ودعماً للعلاقة الوثيقة..بين الحكومتين".
رابعاً: امتداداً للتملّق الأمريكي للعراق في اجتماع ممثلي 68 دولة من أعضاء التحالف الدولي لمحاربة "داعش". فبعد أن نجحت واشنطن في استحصال موقف إعلان "المواجهة مع "داعش" في المراحل الأخيرة"، من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أثنى التحالف الدولي بقيادة أمريكا على جهود العراق في محاربة داعش.
أهداف واشنطن
هناك أهداف أمريكية عدّة تقف خلف هذا التراجع الذي ينذر بإعادة أمريكا لحقبة "بريمن"، ولكنّ بحلّة جديدة، أي أنّه هناك نيّة لإخضاع العراق للسيطرة الأمريكية من جديد، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى التالي:
أولاً: من الأهداف الأمريكية الرئيسية التي تصب في بوتقة "إخضاع العراق للسيطرة الأمريكية من جديد" هو استثمار النصر العراقي على داعش وحصد مكاسبه على الصعيدين الإقليمي والدولي. هذا النصر الذي تحقّق بسواعد العراقيين من الجيش والحشد والعشائر، تسعى أمريكا لاقتناصه سريعاً، خشية أن يصبّ في صالح الحشد الشعبي، أو الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الداعم الرئيسي للحشد والقوات العراقيّة بدءاً من جرف الصخر (النصر) وليس انتهاءً بمعركة الموصل الجارية حاليّاً.
ثانياً: المواجهة مع إيران. فقد قال الرئيس الأمريكي عبر موقع "تويتر" أن إيران تستحوذ على المزيد من العراق بعد إهدار أمريكا 3 تريليون دولار. ترى واشنطن التي حاولت محاصرة إيران بين أفغانستان شرقاً والعراق غرباً أن السحر انقلب على الساحر، إيران باتت اللاعب الإقليمي الأبرز، كما أن هذا البلد الذي ربطته عدواة حرب 8 سنين مع نظام صدّام المدعوم أمريكا حينها، بات صديقاً وداعماً للشعب العراقي. بعبارة أخرى، تدرك أمريكا أن العراق أحد أبرز المنافذ السياسيّة والاقتصاديّة لإيران التي كانت الداعم الأبرز لفصائل المقاومة العراقية إبان الاحتلال الأمريكي بين العامين 2003 و2009.
ثالثاً: هناك خشية أمريكية من أي دور إقليمي لقوّات الحشد الشعبي الرسميّة العراقيّة. لذلك تسعى من خلال السيطرة على القرار السياسي العراقي للحؤول دون تكرار تجربة حزب الله في لبنان، ولكن بنكهة عراقيّة مكبّرة، نظراً للإمكانيات الجيوسياسية للعراق التي تفوق لبنان بأضعاف مضاعفة.
رابعاً: لا يمكن لنا صرف النظر عن الأسباب الاقتصاديّة لهذا القرار، فقد كرّر الرئيس الأمريكي أنه لم يتراجع عن وعود بشأن العراق التي كان قد أطلقها خلال حملته الانتخابية، مجدّداً قوله أن الإدارة الأمريكية أنفقت أكثر من ستة تريليونات دولار على منطقة الشرق الأوسط، وبدون أي نتائج تذكر. رغم وجود خلافات جوهرية بين ترامب التاجر صاحب النظرة الاقتصادية، وبين وزارة الدفاع الأمريكي والاستخبارات الأمريكية أصحاب النظرة الأمنية والعسكرية، إلا أن هذه الخلافات ترتفع في الملف العراقي، حيث تجد جميع الأطراف ضالّتها في بغداد التي يزيد احتياطها النفطي عن 170 مليار برميل.
باختصار، إن الكلام الأمريكي الجديد يعدّ امتداداً لسياساته السابقة بالمماطلة في الخروج من العراق في العام 2011. لا نستبعد أن تسعى دولة عربية للتقارب مع العراق وفق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وهنا نسأل: هل ستنجح واشنطن في إعادة العراق إلى فنائها الخلفي كما كان الحال إبان الاحتلال؟ كيف سيرد العراق عبر كتله البرلمانيّة التي لا تستهوي واشنطن؟ وماذا عن الحشد الشعبي؟ وهل سيقف حلفاء العراق مكتوفي الأيدي، وفي مقدّمتهم إيران؟ تساؤلات نتركها للزمن علّه يأتينا بخبر يقين!