الوقت- تشهد الأوساط الإسرائيلية في السنوات الأخيرة حالة من القلق الوجودي غير المسبوق، دفعت شرائح واسعة من المجتمع الصهيوني إلى البحث عن بدائل خارج فلسطين المحتلة، هذا القلق تجسّد في سباق محموم نحو الحصول على جوازات سفر أجنبية، سواء أوروبية أو أمريكية أو حتى لدول بعيدة لا ترتبط مباشرة بالمشروع الصهيوني.
التقارير الإعلامية العبرية والدولية تكشف أنّ آلاف الإسرائيليين يتهافتون على قنصليات وسفارات أجنبية، يقدمون طلباتهم ويستعينون بمكاتب متخصصة، سعياً وراء "باب نجاة" يتيح لهم الهروب إذا تصاعدت الأزمات السياسية والأمنية في الداخل.
العبارة التي ترددت كثيراً في الصحف العبرية — "الماء والنار" — تعكس صورة دقيقة لحجم الهلع الذي يدفع الصهاينة إلى التضحية بالمال والجهد من أجل الحصول على جواز ثانٍ، وكأن هذا الجواز أصبح طوق النجاة من مستقبل غامض يخيّم على الكيان.
أسباب داخلية متراكمة
الدافع الأبرز وراء هذه الظاهرة هو التوتر السياسي والاجتماعي داخل "إسرائيل"، الانقسامات الحادة حول التعديلات القضائية التي دفعتها حكومة بنيامين نتنياهو، أثارت موجات غضب داخلية واحتجاجات غير مسبوقة، بالنسبة لجزء من الإسرائيليين، هذه التحولات تهدد طبيعة النظام السياسي وتجعلهم يتخوفون من انهيار التوازنات الداخلية، لذا بات التفكير في "الخطة ب" أمراً ضرورياً، وجواز السفر الأجنبي هو الرمز الأوضح لهذه الخطة.
إلى جانب ذلك، يتنامى الشعور بعدم الأمان نتيجة تصاعد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وتراجع قدرة الجيش على فرض السيطرة الكاملة كما كان في العقود السابقة، كلما ارتفعت وتيرة المواجهات، ازداد إحساس المستوطنين بأن بقاءهم غير مضمون، ما يعزز خيار الرحيل ولو على المدى الطويل.
البحث عن بدائل أوروبية
الوجهة الأكثر جذباً للإسرائيليين الباحثين عن جوازات سفر أجنبية هي أوروبا، الأسباب متعددة، تبدأ من الجذور العائلية لليهود الذين قدموا من بولندا وليتوانيا والمجر، مروراً بالقوانين الأوروبية التي تسمح لأحفاد اليهود الذين هُجّروا أو غادروا خلال الحرب العالمية الثانية بالحصول على الجنسية، ووصولاً إلى جاذبية العيش في مدن أوروبية توفر خدمات وحرية وحياة أقل توتراً.
التقارير تشير إلى أنّ دولاً مثل البرتغال وألمانيا وإسبانيا شهدت ارتفاعاً لافتاً في طلبات الإسرائيليين، في بعض الحالات، لا يقتصر الأمر على طلب الجنسية بل يشمل بالفعل الهجرة والإقامة الدائمة، حيث يسعى هؤلاء إلى تأسيس حياة بديلة بالكامل بعيداً عن فلسطين المحتلة.
جواز السفر كرمز نفسي
البعد النفسي لهذه الظاهرة لا يقل أهمية عن البعد السياسي أو الأمني، بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، مجرد حمل جواز سفر أجنبي يمنحهم شعوراً بالطمأنينة، حتى وإن لم يخططوا للهجرة الفورية، فإن امتلاك "مفتاح خروج" يخفف من هواجس المستقبل، هذا يعكس فقدان الثقة العميق في المشروع الصهيوني نفسه، إذ لو كان الشعور بالأمان والاستقرار قائماً، لما كان هناك هذا التهافت على جوازات سفر بديلة.
بكلمات أخرى، هذه الظاهرة تفضح أن المشروع الذي قام على فكرة "الوطن القومي الآمن لليهود" لم يعد قادراً على إقناع جزء من جمهوره، وأنّ حلم الاستقرار تحول إلى كابوس يتطلب مخرجاً سريعاً.
انعكاسات على الهوية الإسرائيلية
الهروب نحو جوازات السفر الأجنبية يكشف أزمة عميقة في الهوية الإسرائيلية، فالكيان الذي سعى لدمج المهاجرين من مختلف بقاع الأرض في هوية واحدة بات يواجه خطر التفكك، عندما يختار الإسرائيلي أن يحتفظ بخط رجعة إلى برلين أو لشبونة أو مونتريال، فهذا يعني أن ارتباطه بالمكان الذي يعيش فيه ليس راسخاً، بل إنّ الانتماء يصبح براغماتياً قائماً على المصالح الشخصية والأمان الفردي، لا على المشروع الجماعي.
هذا الوضع يهدد بخلق أجيال إسرائيلية مزدوجة الولاء، تحمل جوازات سفر متعددة وتفكر دوماً بخيار الخروج، وهو ما يمكن أن يضعف الروح المعنوية للمجتمع ويؤثر سلباً في تماسك الجبهة الداخلية.
قراءة في المستقبل
المؤشرات الحالية توحي بأن الظاهرة لن تنحسر بل ستزداد، مع كل أزمة سياسية جديدة أو مواجهة عسكرية تتصاعد موجات الطلب على الجوازات، من ناحية أخرى، فإن هذه الظاهرة تمنح خصوم المشروع الصهيوني دليلاً إضافياً على هشاشته: فإذا كان المستوطنون أنفسهم غير واثقين بالبقاء، فما الذي يضمن استمرارية الكيان على المدى البعيد؟
من المحتمل أن تتحول هذه الأزمة إلى ورقة سياسية داخل "إسرائيل" نفسها، اليمين قد يتهم اليسار بأنه يدفع الناس للهجرة عبر نشر الخوف، فيما سيحمّل اليسار المسؤولية لسياسات الحكومة اليمينية التي عمّقت الانقسامات، لكن في النهاية، تبقى الحقيقة أن شرائح متزايدة من المجتمع الصهيوني لا ترى في فلسطين المحتلة وطناً آمناً بل محطة مؤقتة.
في الختام، ما يجري اليوم ليس مجرد نزعة شخصية أو رغبة في السفر، إنه مؤشر على خلل بنيوي يضرب المشروع الصهيوني من الداخل، سعي الإسرائيليين وراء جوازات السفر الأجنبية يعكس فقدان الثقة بقدرة الكيان على الاستمرار كملاذ آمن، ومع تزايد هذا الاتجاه، يصبح الحديث عن "الفرار عبر الماء والنار" أقرب إلى حقيقة يومية يعيشها آلاف الإسرائيليين، ممن يبحثون عن مستقبلهم خارج الأرض التي احتلوها قبل عقود.
بهذا، يمكن القول إن السباق المحموم نحو جوازات السفر الأجنبية ليس خبراً عابراً، بل علامة على بداية مرحلة جديدة من الشكوك الوجودية التي قد تعيد صياغة المشهد في المنطقة برمتها.