الوقت- في لحظة ما، عندما كان العالم يحتفل بقدوم عام جديد أو يشاهد صوراً لأطفال يلعبون في ساحات المدارس والحدائق، كان أطفال غزة يختفون واحداً تلو الآخر تحت الركام، أو يموتون بصمت بين أنياب الجوع والعطش.
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة بالنار والحديد؛ إنها مقبرة مفتوحة للطفولة، منذ السابع من أكتوبر، اختزلت "إسرائيل" مفهوم "الحرب" إلى معنى وحيد، قتل الأطفال وذبح براءتهم، وإبادة مستقبلهم قبل أن يتنفسوا أولى خطوات الحياة.
الأرقام التي كشفتها منظمات دولية ليست مجرد إحصاءات باردة، بل هي مرايا تعكس فظاعة ما يجري، أكثر من 20 ألف طفل قُتلوا خلال أقل من عامين، أي ما يعادل إبادة مدينة كاملة من الطفولة، طفل يُقتل كل ساعة، ورضّع لم يُتح لهم أن يكملوا عامهم الأول، وآلاف آخرون فقدوا عائلاتهم أو حُرموا من التعليم والغذاء والدواء، هكذا تحوّلت غزة إلى مختبر للموت، حيث يجري قتل الأطفال ببطء أو بسرعة، بالقصف أو بالتجويع، بالصدمة أو بالحرمان.
المجزرة المستمرة: أرقام لا تحتمل
منظمة "أنقذوا الأطفال" أطلقت صرخة مدوّية: أكثر من 20 ألف طفل استشهدوا في قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي قبل نحو عامين، هذا الرقم وحده كافٍ ليضع "إسرائيل" في خانة الإبادة الجماعية المتعمدة ضد الأطفال، التقرير أشار أيضاً إلى أن طفلاً واحداً على الأقل يُقتل كل ساعة، وهو إيقاع دموي يكشف عن سياسة ثابتة، لا مجرد "أضرار جانبية" كما تدّعي الرواية الإسرائيلية.
الأكثر إيلاماً أن أكثر من 1009 أطفال استشهدوا قبل أن يُكملوا عامهم الأول، بينما وُلد نحو 450 طفلاً خلال الحرب ولم تتح لهم الحياة طويلاً، إذ استشهدوا قبل أن يتذوقوا الطفولة نفسها، هذه الحقائق تسقط كل ادعاء بأن الحرب تستهدف مقاتلين أو بنى عسكرية، فالموت يلتقط أولئك الذين لم يعرفوا بعد معنى المشي أو الكلام.
اليونيسيف: الطفولة بين الموت والصدمة
منظمة "اليونيسيف" لم تكتفِ برصد القتلى، بل تحدثت عن جرح أعمق، جرح الطفولة المعطوبة.
أشارت تقاريرها إلى أن الحرب تسببت في مقتل أو إصابة أكثر من 50 ألف طفل، بينما يواجه مئات الآلاف خطر المجاعة، نصف مليون إنسان، معظمهم أطفال، عالقون وسط جحيم الجوع والعطش والحرمان من العلاج.
اليونيسيف شددت على أن أي طفل في غزة لن يخرج من هذه الحرب سالماً نفسياً، الصدمات النفسية التي تراكمت بسبب القصف وفقدان الأهل والجوع المستمر ستشكل جيلًا من الأطفال الذين يحملون ذاكرة الحرب في وجوههم، وربما يفقدون القدرة على استعادة براءتهم إلى الأبد.
التعليم المستهدف: لا مستقبل على هذه الأرض
حين يُقتل الأطفال في بيوتهم أو يُدفنون تحت المدارس التي قُصفت، فإن الجريمة تتجاوز حاضرهم لتستهدف مستقبلهم أيضاً، المفوض العام للأونروا، فيليبي لازاريني، أكد أن نحو مليون طفل في غزة حُرموا من التعليم، وتحوّلت مدارسهم إلى أنقاض أو ملاجئ لا تصلح للدراسة، الأرقام المروعة تشير كذلك إلى وجود ما لا يقل عن 17 ألف طفل غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عن عائلاتهم، ما يعني جيلاً كاملاً بلا سند ولا حماية.
أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فكشفت أن الهجمات الإسرائيلية على المدارس ستُعطّل التعليم لسنوات طويلة، إذ سيتطلب إعادة بناء البنية التعليمية موارد وزمناً ضخماً، في وقت تنهار فيه كل مقومات الحياة الأساسية، إن تدمير التعليم ليس خطأ عارضاً، بل سياسة لإنتاج فراغ معرفي وثقافي، ومنع أي أفق لبقاء الفلسطينيين في أرضهم.
عندما يتحول تجويع الطفولة لسلاح!
لا يكتمل مشهد القتل إلا بالجوع، فالمجاعة لم تعد خطراً محتملاً، بل واقعاً ملموساً في غزة، الأمم المتحدة أكدت أن نصف مليون شخص يعيشون بالفعل في ظروف المجاعة، ومعظمهم أطفال، الحصار الإسرائيلي يمنع دخول الغذاء والمياه والدواء، ليُترك الأطفال يتضورون جوعاً، بينما يتفرج العالم.
تجويع الأطفال ليس عرضياً، بل سياسة قديمة تستخدمها "إسرائيل" للضغط على المجتمع الفلسطيني، لإضعافه وإخضاعه، لكنها في غزة اليوم بلغت مستوى غير مسبوق، الرضع يموتون بسبب سوء التغذية، والأمهات لا يجدن ما يقدمنه لأطفالهن، والمرضى يموتون لأن أجسادهم الضعيفة لم تعد تتحمل.
البعد النفسي والاجتماعي: أطفال بلا طفولة
من يفلت من الموت المباشر بالقصف يواجه موتاً آخر بطيئاً في النفس، تقارير الأونروا واليونيسيف تتحدث عن انتشار واسع للاضطرابات النفسية بين الأطفال: كوابيس متكررة، صمت طويل، فقدان القدرة على اللعب، والتبول اللاإرادي، الأطفال الذين رأوا إخوتهم وأمهاتهم يقتلون أمامهم لن يعرفوا معنى الأمان مجدداً.
أكثر من ذلك، هؤلاء الأطفال محرومون من أي بيئة طبيعية للنمو، لا مدارس، لا ملاعب، لا أفق، إنهم محاصرون بجدران الحرب، ويُراد لهم أن يكبروا في فراغ، بلا ذاكرة سوى القصف، وبلا أمل سوى النجاة المؤقتة.
الطفولة كهدف استراتيجي
ما يجري في غزة ليس صدفة، بل خطة مقصودة، استهداف الأطفال وتجويعهم وتدمير مدارسهم يعني أن "إسرائيل" لا تريد فقط الانتصار في حرب آنية، بل تريد القضاء على أي إمكانية لوجود مستقبل فلسطيني، فالطفل هو مشروع الغد، وقتله يعني قتل الغد نفسه.
إن تدمير البنية التحتية للحياة ـ من التعليم إلى الصحة إلى الغذاء ـ هو جريمة مركّبة، لأنها لا تقتل الحاضر فقط، بل تجهض المستقبل، هذا ما يجعل الجرائم بحق أطفال غزة تندرج تحت بند "الإبادة الجماعية" وفق القانون الدولي، الذي يعتبر أن استهداف مجموعة بشرية معينة بهدف القضاء على وجودها المستقبلي جريمة لا تسقط بالتقادم.
أين العالم؟
في مواجهة هذه الأرقام المروعة، يقف العالم صامتاً أو متواطئاً، الدول الكبرى التي تتغنى بحقوق الإنسان وحقوق الطفل تكتفي بالتصريحات الباردة، بينما يستمر تدفق السلاح والدعم لـ"إسرائيل"، وكأن دماء أطفال غزة لا تدخل في معادلة الإنسانية الغربية.
لكن رغم ذلك، فإن هذه الجرائم بدأت تثير موجات غضب شعبي عالمي، وضغوطاً على بعض الحكومات الغربية، تقارير المنظمات الدولية أصبحت وثائق دامغة، قد تُستخدم لاحقاً في محاكمات دولية لإثبات مسؤولية "إسرائيل" عن الإبادة الجماعية بحق الأطفال.
ختام القول
أطفال غزة ليسوا أرقاماً في جداول، بل وجوه بريئة كان يمكن أن تصبح أطباء ومهندسين وشعراء. إسرائيل قتلت الطفولة في غزة مرتين: مرة بالقصف المباشر، ومرة بالتجويع والحرمان، ومع كل ساعة يُقتل فيها طفل جديد، تتوسع الهوة بين شعارات العالم عن حقوق الإنسان وحقيقة الصمت أمام المجزرة.
لكن التاريخ لا يرحم، وإن بقي العالم الرسمي متواطئاً، فإن دماء أطفال غزة ستظل شاهداً على أبشع جريمة إبادة في القرن الحادي والعشرين، وعلى محاولة ممنهجة لنسف مستقبل شعب بأكمله عبر استهداف أضعف حلقاته وهي الطفولة.