الوقت- من القضايا التي أثارت انتباه وسائل الإعلام العالمية والمراقبين والمحللين الدوليين في الآونة الأخيرة هي التغييرات المهمة التي حصلت في سياسة تركيا تجاه التطورات الإقليمية لاسيّما فيما يتعلق بالأزمة السورية والتقارب بين أنقره وطهران من جهة، وبينها وبين موسكو من جهة أخرى والذي تبلور بشكل واضح بعد تقديم الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" اعتذاره بشكل رسمي إلى نظيره الروسي "فلاديمير بوتين" عن حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسية.
والتساؤل المطروح هنا، هل هذه التغييرات في السياسة التركية استراتيجية أم تكتيكية؟
للإجابة عن هذا التساؤل هناك فرضيتان:
الأولى: أن تكون هذه التغييرات حقيقية "استراتيجية" وليست تكتيكية؛ وتستند هذه الفرضية أو السيناريو إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا والذي يقوده أردوغان يرغب بالانضمام إلى المحور الروسي - الإيراني والابتعاد عن المعسكر الغربي الذي تقوده أمريكا لأسباب منها أن هذا الحزب يتبنى سياسة تهدف إلى إجراء تعديلات دستورية وتوظيف ظروف المنطقة للابتعاد عن التوجه العلماني المدعوم من قبل الغرب، بالإضافة إلى سعي حكومة أردوغان لتطويق أزمة الأكراد في تركيا والتي يعتبر حزب العمال الكردستاني المحرك الأساسي لها وذلك من خلال رفضها لإقامة منطقة حكم ذاتي لأكراد سوريا الذين تدعمهم واشنطن والذين تمكنت قواتهم من إحراز تقدم ميداني في شمال وشمال شرق البلاد خصوصاً في عفرين وكوباني والجزيرة.
ويبدو أن أردوغان قد أصيب بخيبة أمل بعد أن عجز في إقناع الغرب بالوقوف إلى جانبه في التصدي لمساعي الأكراد الرامية لإقامة منطقة حكم ذاتي سواءً في سوريا أو في تركيا. ويعد هذا بحسب المراقبين من الأسباب الرئيسية التي دعت أنقرة إلى التحول نحو الشرق والتقرب من المحور الروسي - الإيراني.
ومن الأمور المهمة الأخرى التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار هو التخلي الأمريكي عن تركيا في معركتها على مشارف مدينة "الباب" السورية بعد طلب الدعم منها لتقديم غطاء جوّي للقوات التركية المتمركزة هناك، وكذلك نلفت إلى مسألة احتضان واشنطن لــ"فتح الله غولن" الذي اتهمته أنقرة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في تموز الماضي والعديد من العمليات الإرهابية التي حصلت في الفترة الماضية.
كما تجدر الإشارة إلى الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه أنقرة وموسكو بشأن إقرار الهدنة في سوريا والذي يعتقد معظم المراقبين بأنه لم يكن ليحصل لولا الدور الكبير الذي لعبته إيران في هذا المجال.
أمّا الفرضية أو السيناريو الثاني فهو الاعتقاد بأن التغييرات التي حصلت في السياسة التركية الإقليمية تكتيكية "مرحلية" وليست استراتيجية. ومن الأسباب التي دعت إلى تبني هذا الاعتقاد هو الإجراءات التي اتخذتها أنقرة لاستمالة الدول الغربية والتي يفسرها البعض بأنها تنطوي على رسالة مفادها بأن انضمام تركيا إلى المحور الروسي - الإيراني إنما يمثل في الحقيقة ردة فعل على خذلان الغرب لها ولا يعبر عن موقف استراتيجي أو تحول جذري، وما يعزز هذا الاعتقاد هو عدم تمكن أنقرة من اتخاذ سياسات مستقلة طيلة العقود الماضية والدليل على ذلك اعتمادها النظام الغربي في إدارة شؤونها الاقتصادية وتشجيعها على تبني النمط الغربي في الحياة الاجتماعية.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن أردوغان سعى إلى الاستفادة القصوى من التغيير الذي حصل في أمريكا والمتمثل بانتهاء الولاية الثانية للرئيس "باراك أوباما" وانتخاب الجمهوري "دونالد ترامب" لهذا المنصب والذي من المقرر أن يتولى مهام عمله في العشرين من الشهر الجاري وذلك من أجل تغيير موقف أنقرة حيال الأزمة السورية، خصوصاً بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها القوات السورية بدعم من روسيا وإيران ومحور المقاومة والتي تجلت بوضوح في الآونة الأخيرة بتحرير مدينة حلب من الجماعات الإرهابية.
ويعتقد المحللون بأن تغيير السياسة التركية إزاء الأزمة السورية يهدف إلى تحقيق أمرين مهمين؛ الأول: الظهور بمظهر المؤثر في تغيير مسار هذه الأزمة، والثاني إرسال رسالة إلى الإدارة المقبلة للبيت الأبيض بأن أنقرة ستواصل التحرك في إطار محور (موسكو - طهران - المقاومة) ما لم يتدارك ترامب الأمر ويصحح مسار سلفه أوباما والذي أثبت فشله بعد أن تمكنت حكومة الرئيس السوري بشار الأسد من تعزيز مواقفها السياسية والميدانية بفضل التنسيق والتعاون التام مع روسيا وإيران والمقاومة والتي رجّحت كفّة دمشق على الجماعات الإرهابية والأطراف الداعمة لها لاسيّما أمريكا والسعودية.
من خلال قراءة هذه المعطيات يبدو أن كلتي الفرضيتين لهما ما يعززهما من الأدلة التي يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى، وهذا ناجم في الحقيقة من طبيعة السياسات التي يمكن وصفها بالمتقلبة التي تعتمدها حكومة أردوغان في التعاطي مع تطورات المنطقة. بمعنى آخر لايمكن الجزم بشأن أي من الفرضيتين ستتحقق في المستقبل، ولهذا لابدّ من انتظار ما ستؤول إليه الأحداث مستقبلاً.