الوقت- خرقت الرصاصات الثماني التي أُطلقت على السفير الروسي في تركيا جدار الصوت السياسي والدبلوماسي على حدّ سواء. الرصاصات التي أطلقها رجل شرطة تركي يعمل في قوات مكافحة الشغب، يدعى مولود مرت ألتنطاش (22 عاماً)، على السفير الروسي أندريه كارلوف الذي كان يلقي كلمة خلال افتتاح معرض فني في العاصمة التركية، كشفت حجم الأزمة الأمنيّة التركية من ناحية، والخشية من الإستدارة التركيّة نحو روسيا وإيران في الملف السوري من ناحية أخرى.
هذا الخرق، أُريد له أن يكسر التقارب الروسي التركي في الملف السوري والإضرار بالعلاقات بين البلدين وفق ما أوضح الرئيسين أردوغان وبوتين في تصريحٍين متطابقين، إلا أن نتائجه ستكون عكسية وفق المؤشرات الأولية للحادث ومن غير المستبعد أن يزيد من درجة التقارب بين البلدين، لاسيّما في الملف السوري.
رسائل عدّة أراد إيصالها القاتل، الذي لقى حتفه سريعاً برصاص الأمن التركي، عبر رصاصاته الثمانية وهي رصاصات تحمل باروداً سياسيّاً بمضامين عسكرية وأمنيّة على حدّ سواء، نلخّصها بالنقاط التالية:
أولاً: يأتي الحادث في وقت فائق الأهميّة، وتحديداً قبل يوم واحد على الاجتماع المقرّر عقده في موسكو بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيريه الإيراني محمد جواد ظريف والتركي مولود جاويش أوغلو حول الوضع في سوريا. الرصاصة الأولى أرادت ضرب هذا اللقاء الذي يتم دون حضور غربي وعربي، بغية إبقاء المشهد السوري على حاله، والحؤول دون الانتقال من الوضع العسكري إلى الحلّ السياسي.
ثانياً: يأتي الحادث بعد انتصار حلب الذي يعدّ الحصاد الأكبر لسوريا وحلفائها. هناك سعي من قبل الذين يقفون خلف هذا القاتل للحدّ من تأثير هذا الانتصار في الإعلام الغربي وعلى الفصائل المسلّحة نفسها، التي تعيش حالة من الانقسام. بعبارة أخرى، يعد حرف الرأي العام العالمي، العربي والغربي، ورفع المعنويات لدى الجماعات المسلّحة المنكسرة أحد الأسباب التي تقف خلف هذا الحادث.
ثالثاً: لا يمكن فصل الحادث عن مسير تعزيز العلاقات بين أنقرة وموسكو في الملف السوري، لاسيّما بعد نجاح السفير كارلوف في تعزيز هذا التقارب وهندسة الاتفاق الذي أدى إلى إخراج المسلحين من حلب الشرقية، والمدنيين من الفوعة كفريا في محافظة إدلب. يرى محلّلون أن الشرارة الميدانية الأولى للحادث بدأت مع إحراق الحافلات قبل دخولها إلى بلدتي الفوعة وكفريّا، والتي كشفت خروج بعض الفصائل المسلّحة من العباءة التركيّة.
رابعاً: يتشابه هذا الحادث كثيراَ مع حادثة إسقاط الطائرة الروسيّة في سيناء إثر التقارب المصري الروسي حينها، وبالفعل قد أوجدت هذه الحادثة نوعاً من الشرخ بين موسكو والقاهرة، إلا أنه تمّ علاج هذا الشرخ بوتيرة سريعة جداً، ليس ذلك فحسب، بل تعزّزت العلاقات أكثر بعد الحادث ووصلت إلى مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين. فيما يخص تركيا، من المؤكد أن هذه الرصاصات لها تأثير سلبي محدود على العلاقات الروسية التركية، إلا أننا قد نشهد تقارباً روسيّاً تركيّاً غير مسبوق.
خامساً: تشكّل عملية الإغتيال هذه، والتي تمّت في قلب العاصمة أنقرة، ضربة قويّة لصورة تركيا الأمنيّة وهيبتها، لاسيّما تلك التي يحاول البعض إحاطتها برئيس الإستخبارات هاكان فيدان. لا شكّ في أن الهيبة الأمنيّة التركية كانت سبباً لتعزيز الاقتصاد عبر السياحة التي كانت تدرّ أكثر من 30 مليار دولار على الخزينة، كُسرت منذ الإنقلاب الفاشل، و التفجيرات التي تلته خير دليل على ذلك، إلاّ أن عمليّة الإغتيال الأخيرة لسفير دولة عظمى قدّ حطّمت الهيبة الأمنيّة التركيّة، وهو ما يسعى أردوغان اليوم لمعالجته بعد أن تلمّس أخطاءه السابقة.
سادساً: اعتدنا أن يكون أردوغان متطرّفاً في ردود أفعاله، وسفينة مرمرة وحادثة الطائرة الروسية والأزمة السورية خير دليل على ذلك. فهل سيرد أردوغان على هذا التحدّي عبر الإسراع أكثر في وجهته الحاليّة، أي التقارب أكثر فأكثر مع روسيا وإيران بغية إيجاد حل سياسي للأزمة السورية؟
سابعاً: هناك من وجد في الحادثة رسالة غربية للرئيس التركي أن التقارب أكثر فأكثر يعني التلويح بانقلاب جديد في البلاد، وهذا هو السبب في اختيار رجل من الشرطة التركيّة لتنفيذ الحادث وبدم بارد. لا ندري مدى دقّة هذا التوجّه، إلا أنّه يعبر عن وجهة نظر أصحابه.
ربّما أرادت الجهة المنفّذة إيصال رسائل إضافيّة غابت عنا، ربّما بعض ما ذكرناه لم تقصده، إلا أن ما هو مؤكد أن هذا الحادث يهدف بالدرجة الأولی لإنهاء أي حل سياسي للأزمة السورية، وبالدرجة الثانيّة منع التقارب الروسي التركي والذي نتج عنه اتفاق حلب الأخير بخلاف إرادة العديد من الدول الإقليميّة والدوليّة.
لا نعتقد أن عملية الاغتيال ستؤدي إلى تراجع الرئيس التركي عن تقاربه مع روسيا، ربّما يحصل العكس تماماً، وبالتالي قد نكون أمام حلول سياسية جديدة للأزمة السورية بقيادة المثلث الروسي الإيراني التركي.