الوقت - بعد سيل من التهديدات السعودية حول إنتاج البلاد من النفط، قررت الرياض التخلي عن عنترياتها النفطيّة، حيث توصّلت "منظمة الدول المصدرة للنفط" (أوبك)، خلال اجتماع أمس في فيينا، إلى اتفاق لخفض إنتاجها بـ1.2 مليون برميل يومياً، ليراوح في حدود 32.5 مليون يومياً.
وكما في السياسة، تسجّل السعودية إخفاقاً جديداً أمام إيران، إلا أنّه كان هذه المرّة بنكهة إقتصاديّة حيث يأتي القرار الجديد، الذي يعد أول خفض لإنتاج النفط منذ عام 2008، بعد موافقة السعودية على خفض إنتاجها وتخليها عن مطلبها بأن تقلص إيران إنتاجها. لم تقتصر نتائج إجتماع فيينا، بالأمس، على خفض السعودية لإنتاجها بواقع نصف مليون برميل يوميا، بل نجحت ايران في انتزاع حقّها من زيادة الإنتاج الذي كان منخفضاً بسبب الحظر الإقتصادي قبيل الإتفاق النووي، الأمر الذي يعتبر انتصارا لطهران.
سريعاً، ألقى القرار بظلاله على أسعار النفط التي صعدت بقوة متجاوزة حاجز 50 دولاراً للبرميل على وقع الأنباء الإيجابية، ومن المتوقع أن يؤثر ذلك على أداء المؤشرات والأسهم في كافّة دول أوبك، وبالتالي تكون قطر التي اقترحت في يونيو (حزيران) الماضي عقد اجتماع تشاوري لتبادل وجهات النظر، على هامش منتدى الطاقة الدولي الذي كان مقررًا عقده بين 26 و28 سبتمبر (أيلول) الجاري في العاصمة الجزائرية نجحت في الحد من خسائرها النفطية بعد إصرار "شقيقتها الكبرى" على رفع إنتاجها من النفط إلى أكثر من عشرة مليون برميل نفط يوميّاً، مما أدى إلى إصابة الأسواق بتخمة نفطية، ساعدت على انخفاض الأسعار إلى ما دون 30 دولارًا للبرميل في بداية العام الجاري.
في الحقيقة، يدرك الجميع أن "كباش" أكثر من سنتين ونصف بين البلدين، ايران والسعودية، إنتهى اليوم برضوخ الأخيرة لقرار الأولى التي كانت تشترط أن تلتزم جميع الدول بوضع سقف للإنتاج، حتى تلتزم به أيضًا، رغم أنها لم تفعل ذلك قبل رفع انتاجها حيث استغلت مع الإمارات العقوبات الإقتصادية على ايران لرفع إنتاجها من النفط بخلاف نظام "أوبك".
الدروس والعبر
لسنا في وارد الدخول في نتائج قرار "أوبك" على العلاقات بين البلدين حيث اعتبر العديد من المحللين أن اعتراف السعودية بأحقية ايران في رفع إنتاجها حتى في ظل اتفاق لسقف الإنتاج بين باقي الدول ومنها السعودية نفسها، يعدّ تراجعاً استراتيجياً سيفضي إلى تقارب إيراني سعودي محتمل في الفترة المقبلة، إلا أن القرار يحمل في طيّاته جملةً من الدروس والعبر، أبرزها:
أولاً: تعد السوق النفطيّة إحدى جبهات المواجهة القائمة بين السعودية وإيران، حيث يمتلك البلدان فهرساً طويلاً من صفحات المواجهة المختلفة، سواءً المباشرة أو غير المباشرة، ولعل أبرزها اليوم، سياسياً ما حصل في لبنان، وعسكرياً ما يجري في سوريا واليمن. ولم تستطع السعودية حتّى الساعة تحقيق أي انتصار يتيم على الطرف الإيراني وحلفائه في المنطقة.
ثانياً: لم يكن هذا الإنتصار مستغرباً على الذين تابعوا عملية المفاوضات النووية الطويلة التي بدأت منذ العام 2003 حيث نجح أصحاب "حياكة السجاد الإيراني" من خلال الصبر العميق الذي تحلى به الإيرانيون في الدفاع عن حقوقهم النووية، واليوم النفطية. ربّما لو توجّه أصحاب القرار السعودي إلى متحف السجاد في طهران، لا بد أن يشعروا هناك بالعجب والإعجاب ببراعة صانعي السجاد، وبصبرهم على إخراجه في شكل لوحات فنية رائعة. عندها سيدركون جيّداً أن الصبر شيمة أصيلة من شيم الشعب الإيراني، ويعلمون أن تعنّتهم النفطي حتى لو دام عشرات السنين لن ينتهي بخلاف الإرادة الإيرانية.
ثالثاً: بالتأكيد، لم تكن السياسة الإيرانية لتنجح لولا إنطلاقها من المنطق والواقع وإرادة الشعوب، وهذا ما سمح لها بتحقيق العديد من الإنتصارات الإقليمية التي قرأت فيه السعودية النفوذ. على سبيل المثال، في سوريا، كما في العراق واليمن ولبنان والبحرين، تصرّ إيران على الرضوخ لقرار الشعب مهما كان، إلا أن السعودية التي تدعم النظام في اليمن والبحرين بحجّة الشرعية، تحاربه في سوريا والعراق تحت شعارات واهية.
رابعاً: إن التراجع السعودي في جبهة النفط قد يسري على العديد من الملفات الأخرى، لاسيّما اليمن، حيث قد تلجأ السعودية إلى غريمها الإيراني لإنقاذها من مأزقها هناك. هذا ما قرأه بعض المحللين في التراجع السعودي، وبصرف النظر عن موافقتنا لرأيهم أو مخالفته، نأمل أن تتراجع السعودية في الميدان، اليمن وسوريا، كما تراجعت في السياسة لبنانيّاً، وفي الإقتصاد نفطيّاً.
خامساً: على الصعيد الإقتصادي، إضافةً إلى طهران تعد السعودية والدول الخليجية، من أبرز الدول المستفيدة من القرار الذي أدّى إلى إرتفاع أسعار النفط، علّها تنجح في تقليص العجز الإقتصادي الذي أصاب هذه الدول بسبب السياسات السعودية التي كانت انتحاراً إقتصاديّاً قبل أي شيء آخر.
أظهر قرار "أوبك" الأخير إقتدار النظام الإيراني مقابل عجز النظام السعودي، ففي حين صمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة أمام العقوبات الغربية الظالمة لعشرات السنين، فشلت السعودية في الصمود أمام شروط وضعتها بنفسها لأكثر من سنتين، فتخيّل يرعاك الله.