الوقت - بعد وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب الى البيت الأبيض، ونجاحه في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، خرجت التحليلات والتكهنات حول سياسات العهد الجديد، لتُلقي بظلالها على حديث الإعلام العالمي والإقليمي. في حين بات النقاش حول الفرق بين الرئيس الجديد والرؤساء السابقين، وكأن رئيس أمريكا عادة ما يكون دماغاً إستراتيجياً، مع محاولة البعض تقديمه بأنه الحاكم الناهي في القرارات والإستراتيجيات، دون القيام بتحليل الحدث بطريقة مهنية تُساهم في قراءة الواقع الحالي والتنبؤ بالمستقبل بموضوعية. فما هي هذه الحقائق، والتي تُعتبر أسس تحديد وتحليل أي سياسة مستقبلية، تتعلق بأمريكا، بعد الإنتخابات الرئاسية؟
أولاً: بعيداً عن هوية الرئيس، من يتحكم بالسياسات المفصلية لأمريكا؟
إن التركيز على هوية الرئيس ولأي فريقٍ سياسي ينتمي، تخطى حدود المنطق في التعاطي مع نتيجة الإنتخابات الأمريكية التي حصلت. بل بدأ البعض بالترويج لما يمكن أن يعنيه وصول ترامب، على صعيد السياسة الدولية لأمريكا، دون الأخذ بعين الإعتبار مسألة من يتحكم بالسياسات الأمريكية المفصلية، وكأن الرئيس وحده من يُقرر. في حين يجب معرفة أن هناك الى جانب الرئيس العديد من القوى التي تُساهم بشكل أساسي في تحديد وجهة النظر الأمريكية وصناعة القرار الأمريكي. وهذه القوى بشكل أساسي هي:
- قوى الضغط: تشمل اللوبيات الصهيونية، والتي تتكون من قوى الضغط اليهودية - الصهيونية مثل "إيباك"، "بناي بريث"، "جويش إبل"، و"جويش أنتيتي سنتر" الى جانب "منظمة جونيت العالمية" و"هياس" و"لجنة البحث اليهودية الأمريكية العالمية". كلها قوى مؤثرة في صنع القرار الأمريكي.
- شركات السلاح العالمية: وأبرزها "شركة كولت الشهيرة" لصناعة المسدسات، والتي يقع مقرها في أمريكا وتملكها حالياً مجموعة "زيلخا للإستثمار" التابعة لأسرة زيلخا الصهيونية. الى جانب شركة "سيغ ساور" الألمانية لصناعة الأسلحة ويترأسها اليهودي "رون كوهين".
- شركات الغذاء: والتي تأسست للسيطرة على تجارة الغذاء العالمية وتأمين موارد مالية لدعم سياسات الحركة الصهيونية. من بين أبرز تلك الشركات، سلسلة مطاعم ماكدونالدز والتي يُديرها تنفيذياً اليهودي "جاك فرينبيرغ" الذي يشغل منصب الرئيس الفخري للغرفة التجارية الأمريكية الإسرائيلية. كما تساهم سلسلة محلات "ستاربكس" الشهيرة، الى جانب عدد من الشركات العالمية الأخرى كشركة "نستله" السويسرية التابعة لشركة "أوسيم" الإسرائيلية، و"كوكا كولا" للمشروبات الغازية، والتي ترعى جائزة سنوية للغرفة التجارية الأمريكية الإسرائيلية، كانت ساهمت عام 2009 في الضغط على مجلس الشيوخ من أجل رفض قرار أممي لوقف إطلاق النار على قطاع غزة.
- شركات الإلكترونيات والبرمجيات: شركات الإلكترونيات والبرمجيات والتي تخدم القطاع المعلوماتي الأمريكي وتتحكم به كشركات رقابة الكترونية، ويملكها يهود. وهنا نُعدد أهمها، كشركة "إنتل" للإلكترونيات والتي يملكها اليهودي الأمريكي "أندرو غروف"، وشركة "أوراكل" للبرمجيات والتي أسسها اليهودي الأمريكي "لاري إلسون". الى جانب شركة "ديل" لإنتاج الحواسيب وشركة "غوغل" التي أسسها اليهودي الأمريكي "سيرجي براين".
ثانياً: السياسة الأمريكية الخارجية هي برنامج يلتزم به أي رئيس
إن أحد أهم الحقائق التي يجب معرفتها، هي أن السياسة الخارجية الأمريكية، لها خطوط حمراء تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، حيث لا يمكن للرئيس تغييرها أو تعديلها. في حين يجب لحاظ التالي:
- إن دور الرئيس الأمريكي هو العمل على تخريج السياسة الدولية لأمريكا، وليس صياغتها. فصناع القرار في واشنطن، والذين أشرنا الى بعضهم أعلاه، الى جانب الجيش الأمريكي، يعملون على وضع السياسات الإجرائية التي تتماشى مع المصالح الأمريكية الظرفية، دون أن تؤثر على الأمن القومي المرسوم في الإستراتيجية بعيدة المدى. وهو ما يعني أن الرئيس يُمثِّل مظهر السياسة الأمريكية الدولية.
- إن شخصية الرئيس الأمريكي هي العامل الأهم الذي يطبع الهوية السياسية لرؤية أمريكا في سياستها الدولية. وهو الأمر الذي يبدو أن ترامب لن يخدم المصلحة الأمريكية فيه. خصوصاً بعد أن كان أصدقاؤه الجمهوريون أول من تحدثوا عن خطره في هذا المنحى، قبل أي طرفٍ أمريكي أو غربي آخر. وهو ما يُفسِّر الخوف الذي برز بعد انتخاب ترامب وعبَّرت عنه تصريحات وزراء الخارجية الأوروبيين لا سيما الفرنسي والألماني حول أطر التعاون الخارجي المشترك بين أوروبا وأمريكا في المستقبل.
ثالثاً: الديمقراطيون والجمهوريون يتنافسون داخلياً، لكنهم يعملون تحت سقف الأمن القومي الأمريكي
ليس صحيحاً أن وصول ترامب للرئاسة يختلف فيما يخص الأمن القومي الأمريكي عن وصول منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون والتي خسرت الإنتخابات. وهنا نُشير لحقائق مهمة:
- إن المؤسسة الأمريكية هي التي أفرزت وبسبب تركيبتها، وصول كلٍ من الديمقراطية كلينتون، والجمهوري ترامب، للمنافسة في الإنتخابات وهو ما رفض الكثير من المحللين الأمريكيين الرضوخ له، أو اعتبار نتائجه دليلاً على أهلية المرشحين. في حين لا يعني ذلك أن الطرفين الديمقراطي والجمهوري، يوافقون بشكل تام على وصول هذه الأسماء للتنافس، خصوصاً أن الإعلام الأمريكي، إنشغل - ولو بشكل غير مدروس النتائج أدى الى ضرب الصورة الديمقراطية لأمريكا - بإظهار القلق الجمهوري من وصول ترامب، والسخط الديمقراطي من وصول كلينتون. مما يعني أن التنافس الذي أظهرته وسائل الإعلام بأنه تنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين، كان أيضاً في الحقيقة تنافساً كبيراً داخل الطرف الواحد. فيما شكلت فضيحة كلينتون مقابل منافسها الديمقراطي ساندرز باللعب بنتائج تصويت الديمقراطيين لمرشحهم في الإنتخابات التمهيدية لكل طرف، سبباً أكد المحللون الأمريكيون أنه كان العامل الأكبر في تصويت الناخبين الديمقراطيين لترامب، ثأراً من كلينتون.
- إن التنافس الداخلي انتهى مع وصول ترامب. في حين يوجد لدى الطرفين الديمقراطي والجمهوري، توجه دائم للعمل معاً فيما يخدم المصلحة الأمريكية، خصوصاً في ظل تحذيرات كلٍ من عملاقة التخطيط الأمريكي "هنري كسينجر" و"سيغنيو بريجنسكي" والذي يدعم كل واحد منهم طرفاً من الإثنين، ويسعيان دوماً لتقريب وجهات النظر.
رابعاً: لم تعد أمريكا وحدها تتحكم بالعالم
يعتبر هذا الموضوع من أهم الحقائق التي يجب الوقوف عندها. فالتغيرات الحاصلة اليوم، هي الواقع الحقيقي الذي ينظر له الأمريكيون، ويتعاملون على أساسه. ولن تكون سياسات أمريكا كما كانت في الماضي، سياسات متفردة. ليس لأنها لا تريد بل لأن العالم اليوم بات يضم دولاً، قادرة على تغيير مسارات السياسة الدولية، وهو ما رضخت أمريكا له. لذلك فإن الإغفال عن هذه الحقيقة يُبعدنا عن التقييم الدقيق. وهنا نُشير لهذه القوى بالتالي:
- روسيا القوة العسكرية: بإختصار باتت روسيا اليوم، ليس فقط من ناحية قدراتها العسكرية بل من ناحية قدرتها على فرض التوازنات العسكرية في المنطقة والعالم، طرفاً لن يستطيع الأمريكي التعاطي معه كفترة الحرب الباردة. وهو ما له العديد من الأسباب التي باتت معروفة أهمها الملف السوري.
- الصين القوة الإقتصادية والتجارية: على الرغم من قدراتها العسكرية تُشكل الصين قوة إقتصادية كبيرة تحتاج لها أمريكا كسوق تنافسية، فيما تُعتبر الصين التحدي الأكبر لواشنطن لناحية الزعامة العالمية لسبب أنها باتت تُشكل تهديداً وجودياً للمصالح الأمريكية في مناطق المحيط الهادئ.
- إيران القوة الإستراتيجية: إن القوة الإستراتيجية لإيران وتأثيرها السياسي والعسكري، واعتبارها بوابة كل من روسيا والصين نحو الشرق الأوسط، عوامل تأخذها أمريكا بعين الإعتبار كما تأخذها الصين وروسيا. خصوصاً أن بروز دور هذه الدول في الشرق الأوسط كان بسبب النجاحات الإيرانية على الصعيدين السياسي والعسكري. في حين تخطت إيران في تعاظمها الدور الإقليمي لتُصبح وجهة دول الجوار الأمريكي والإتحاد الأوروبي.
إذن في وقتٍ يغرق فيه الكثير من المحللين في بحر التحليلات، فإن أسس التحليل أو ركائز التخطيط ليست رأياً أو وجهة نظر. صحيحٌ أن دونالد ترامب لم يكن يوماً رجل سياسة بل هو أقرب الى رجل الأعمال والإعلام ذي الشخصية العنجهية البعيدة عن الركوزية السياسية، فإن باراك أوباما لم يكن قبل وصوله لسدة الرئاسة لامعاً في العمل السياسي أو معروفاً لدى الجمهور على الرغم من انشغالاته في المجال الحقوقي. في حين أن سلوك سلفه جورج بوش الإبن لا يختلف في بُعده عن السلوك الطبيعي عن الرئيس الأمريكي الجديد. لنقول إن رؤساء أمريكا ليسوا أدمغة إستراتيجية كما يحاول الإعلام تقديمهم. هم أشبه بناطقي السياسة، يختلفون فيما بينهم بالقدرات والطاقات وكيفية إخراج ما يُنتجه صُنَّاع القرار الأمريكي.
وحول ترامب الذي يبدو أنه سيكون الرئيس الأسوأ في تاريخ أمريكا، فهو في الحقيقة يُناسب المرحلة التي تعيشها واشنطن. مرحلةٌ يبدو أن الناخب الأمريكي عبَّر عن تأثيره الكبير فيها، وسعيه للتغيير مما سيساهم في تكوين نواة انهيار النظام السياسي الأمريكي الداخلي. مرحلة يمكن وصفها بمرحلة السقوط الأمريكي سيكون فيها دونالد ترامب رئيساً. وهنا، فلا بأس برئيسٍ يُساهم في تعجيل هذا السقوط.