الوقت- نجحت تركيا في العقد الاول من القرن الحالي في بناء سياسة خارجية عنوانها"صفر مشاكل مع الجيران"، كما أن موقفها آنذاك من القضية الفسلطينية ساهم في ازدياد شعبية الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان لدى كافة شعوب المنطقة، ولكن مع بدء ما يسمّى بالربيع العربي ظهرت أطماع "العثمانيون الجدد" لتدمر السياسة السابقة بل تحوّلها إلى "صفر لامشاكل مع الجيران"، فغدت تركيا اليوم عدوّاً للشعوب العربية يمثل وجها آخر للسياسة الإسرائيلية.
لقد شكّلت طموحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بناء "عثمانية جديدة" على غرار مصطفى أتاتورك ضربة قاضية لسياسة بلاده الخارجية، فبعد أن مرّت تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية للحكم في عام ۲۰۰۲ إلى العام 2010 في "بحبوحة" خارجية أحيتها إقتصادياً، عسكرياً وسياسياً، أصبحت انقرة حالياً وبسبب سياسات الحزب الحاكم وطموحه باعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية ليس كسلطة إسلامية فحسب، ولكن كقوة عظمى في المنطقة، عدوّاً لكافة شعوب المنطقة بدءً من سوريا مروراً بمصروليبيا وصولاً إلى العراق، لأنها تعتمد مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" فللوصول الي أهدافها المنشودة تعبر على دماء الشعوب الإسلامية.
مع تغيّر سياسة أردوغان إلى "صفر لامشاكل مع الجيران" أو بالأحرى إنتقال سياسة "صفر مشاكل" من الصفرإلى المئة، بدأت احلام إمبراطوريته تتكسر على أعتاب إنتصارات محور المقاومة في العراق وسوريا، كما أن إنكسار داعش من ناحية وإنكفاء الإخوان المسلمين عن الساحة المصرية من ناحية آخرى زادت طينته بلةّ، فما هي أسباب الفشل التركية في سياساتها الخارجيّة؟
يسعى أردوغان رغم إمعانه في قتل المسلمين عبر دعم التنظيمات الارهابية وعلى رأسها "داعش" الارهابي إلى قيادة العالم الإسلامي، وتعتبر الطموحات الإستعمارية للعثمانيين الجدد سبباً رئيسياً لإنكسار السياسة التركية، سواءً في الداخل أو في الخارج، فإضافةً إلى سياسة القبضة الحديدية الداخلية، يستمر أردوغان في إستعداء سوريا والعراق ومصر والسعودية والإمارات وليبيا وأرمينيا من خلال السياسات والتدابير التي تتعارض مع مصالح تلك البلدان، أبرزها دعم تنظيم داعش الارهابي في سوريا والعراق واستمرار دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، لذلك ما هي التداعيات الداخلية والخارجية على سياسة أردوغان الحالية؟
داخلياً، يستعدي الرئيس التركي قطاعات كبيرة من سكان بلاده مثل الأكراد والكماليين والعلويين، وكذلك تقوم المخابرات التركية بتضييق الخناق على المعارضين والمنتقدين المحليين، وقد برزت قناعات لدى خصوم الحزب الحاكم في تركيا أن سياسة الحزب اضرت كثيراً بسمعة هذا البلد، حتى أن أنقرة فقدت مؤخراً الكثير من معاملاتها التجارية مع دول المنطقة بسبب سياستها العدائية من ناحية وعدم امكان انتقال البضائع التركية عبر الأراضي السورية من ناحية آخرى.
أما خارجياً، فهنا يكمن بيت القصيد في الفشل التركي الحالي. أنقرة التي تعتبر الداعم الأول للمعارضة السورية المسلحة، ققد حوّلت أراضيها إلى معبر آمن لألاف التكفيريين فضلاًعن تزويدهم بمعلومات أمنية وإستخباراتية، كما أنها تسعى بين الفينة والآخرى للإستفادة من الظروف الاقليمية والدولية لانتهاز الفرصة من أجل وضع قدمها في التراب السوري.
في العراق أيضاً يسعى حزب العدالة والتنمية ممثلاً بجناحيه الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء داوود أوغلو لإيجاد موطئ قدم هناك، سواء بالوقيعة بين حكومة كردستان العراق والحكومة المركزية، أو بدعم الجماعات المسلحة لضرب العراق وتفتيته إلى دويلات ضعيفة متناحرة فيما بينها، كذلك لا تخفي الدولة الأردوغانية شرائها للنفط العراقي من تنظيم داعش الإرهابي بأزهد الأثمان. في السياق نفسه نري البصمات التركية واضحة في مصر حيث اثارت هذه التدخلات احتجاج حكومة السيسي بسبب الدعم التركي لجماعة الاخوان المسلمين. أيضاً أظهرت العديد من الاطراف الليبية إنزعاجها بشكل كبير من التدخلات التركية في شؤون هذا البلد، ودعمها التيار الاخواني علي حساب سائر الاحزاب والتيارات الاخري.
لم تقتصر نتائج السياسات العدائية التركية على محيطها الشرق أوسطي الذي خسرت علاقاتها معه بإستثناء قطر و تل أبيب، بل تعدّتها إلى وراء البحار والمحيطات فقد برزت ازمة صامتة بين الإدارة الأمريكية والحكومة التركية بسبب البعض من سياسات الاخيرة، كما أن العديد من المسؤولين في الإتحاد الأوروبي أبرزوا إمتعاضهم من الدعم التركي للجماعات المسلحة في سوريا والعراق.
اذاً، خسرت تركيا بقيادة "العثمانيين الجدد" مشروعها في الشرق الاوسط، كما ان رياح الصراع التركي-التركي باتت تجري بما لا تشتهي سفن أردوغان، فضلاً عن تهاوي بعض أعمدة البيت الداخلي لحزب حرية العدالة والتنمية بسبب "جنون العظمة" لدى البعض من ناحية، والفساد الحاصل من أصحاب البلاط الأردوغاني من ناحية آخرى.
في الخلاصة، أخطأ أردوغان وحزبه في سياستهم الإستعمارية، وبما أن إستمرار السياسة الحالية لأنقرة ستؤدي الي عزلة تركيا عن العالمين العربي والاسلامي وجعلها عرضة للمزيد من الضغوطات الغربية في المرحلة القادمة، لم يتبق أمامها سوى الرضوخ لسوريا بقيادة الرئيس المنتخب بشار الأسد والتراجع عن دعم التيارات التكفيرية والعودة الي صفوف الامة الاسلامية لإنقاذ ما يمكن انقاذه.