الوقت- بضع كلماتٍ للسيد حسن نصر الله يحتاج المحلل والمتابع أن يقرأها ويكرّرها مراتٍ ومرات حتى يدرك دلالاتها ونتائجها وما بين سطورها. فقائد المقاومة الذي أطلّ في خطاب ذكرى شهداء القنيطرة استنهض وأنعش في قلوب وعقول شعوب الأمة شعور الكرامة والعزة والنصر على عدوها المغتصب لأراضيها وعرضها وكرامتها. فالجميع كان ينتظر "الكلمة الفصل" بعد عملية الإغتيال في القنيطرة وعملية شهدائها الأبرار .
فإذا أردنا أن نحصي ما كُتب بين إغتيال القنيطرة وعملية شبعا المحترفة فقد يتفاجأ المرء عندما يرى أنّ المقالات والتحليلات التي كُتبت على الصعيد الإقليمي والدولي هي لمرحلة لا تزيد على عشرة أيام. ولكن الذي يفقه ما حصل بين العمليتين يدرك أنّها مرحلة أقل ما يُقال فيها أنها منعطف في الصراع مع العدو الصهيوني، وقد كانت تجربةً مليئةً بالعبر والدروس العسكرية والسياسية والإستراتيجية والنفسية للعدو وللمقاومة. ولا شك أنّ هذه المرحلة سيحكي عنها التاريخ بسطورٍ تبدأ معها مرحلة إستئصال الغدة السرطانية من الوجود.
وقد أرست هذه المرحلة حتى قبل خطاب السيد حسن نصر الله الكثير من المعادلات وثبّتت توازن الردع لا بل كسرت هذا التوازن لصالح حزب الله الذي راهن الكثيرون على عدم ردّه على عملية الإغتيال للظروف المحيطة به إقليمياً وداخلياً. وقد جاء خطاب السيد حسن نصر الله ليلغيَ معادلاتٍ سابقةٍ لم تعد تعني المقاومة في حضورها الجديد ورسم خارطةٍ جديدةٍ للعلاقة مع العدو تقوم على كسر القواعد والتوازنات العسكرية التي كانت سائدة قبل العملية، وتوحيد جبهات المقاومة بالفعل ووضع عنوان المرحلة الجديدة: زوال الکيان الإسرائيلي.
مهرجان تكريم شهداء القنيطرة الذي وُصف "بمهرجان النصر الثالث" إستحق هذا اللقب بجدارة إن من حيث مضمون الخطاب الذي ألقاه السيد نصر الله أو من لجهة مزاج الجمهور الحاضر في مجمع سيد الشهداء في الضاحية الجنوبية لبيروت الذي كان يشي باحتفالية تشبه مهرجان التحرير في بنت جبيل في العام 2000 ومهرجان الإنتصار في ملعب الراية في أيلول 2006. العناصر المشتركة بين الأناشيد والمسرح والصور وشعار "على طريق القدس" وهتافات الجمهور المتكررة والتصفيق الذي لم يهدأ، بيّنت كلها أنّ مهرجان تكريم شهداء القنيطرة صار مهرجان انتصار وليس مجلس تكريم وعزاء.
وقد برزت في عبارات السيد نصرالله العودة إلى خطاب التأسيس وإلى بيانات المقاومة الأولى في بداية الثمانينيات، عندما ختم خطابه بالعبارة الشهيرة: "بندقية المقاومة هي الرد وقوافل الشهداء تصنع النصر". وكان المشهد يعيد الى الأذهان لحظة اعتلاء السيد المنبر أمام مقر قيادة الشورى في حارة حريك في شتاء العام 1992، مخاطباً الإسرائيليين أنهم ارتكبوا أكبر حماقة في التاريخ بقرار تنفيذ جريمة إغتيال الأمين العام السابق الشهيد السيد عباس الموسوي وزوجته وإبنه.
ومن منبر شهداء القنيطرة، الذين سقطوا بطريقة الاغتيال نفسها كما شبّهها السيد، إغتنم ذروة حضوره ومعنوياته وقوته ليتوجه الى الإسرائيليين قائلا:" إنكم بفعلتكم الجبانة، جعلتم المقاومة تكسر كل المعادلات منذ الآن فصاعداً. نحن لسنا هواة حرب ولا نريدها، لكن إذا فُرضت علينا فنحن أهلها". فالسيد يعلم جيداً أنّ القيادة الإسرائيلية قبل الضربة القاسية التي تلقتها كانت تعتقد أنها وجّهت للمقاومة ضربة مؤذية، لكنها ما كانت الا شحنةً إيجابيةً لإستنهاض الهمم وتحويل التهديد الى فرصة أودت بالإسرائيلي إلى المذلة أمام العالم وأولّهم سيده الأمريكي (حيث نُقل عن ديبلوماسي أميركي قوله أمام مسؤولين لبنانيين أن بنيامين نتنياهو ارتكب حماقة كبيرة بعملية القنيطرة ولا نستطيع تغطية أية محاولة منه لاستدراج المنطقة الى حرب جديد)،وأمام شعبه في الداخل بعد أن هدّد وأرعد على مدى عشرة أيام وهو يعلم أنّ صمت المقاومة ليس إلا تحضيرا للرد الحاسم.
ومع أنّ السيد نصر الله كان قبل عملية الإغتيال بأيامٍ قليلة في مقابلته مع قناة الميادين يثبّت قواعد التوازن والإشتباك مع الإسرائيلي على أساس توحيد أذرع محور المقاومة في مواجهة أي اعتداء، إلا أنّ عملية الإغتيال وردّ حزب الله دفع المقاومة لتأخذ زمام المبادرة في تحديد قواعد جديدة كان أبرزها إنهاء قواعد الإشتباك وعدم الإعتراف بتفكيك الساحات وهذا له تداعيات ودلالات جديدة وخطيرة في الصراع مع العدو الإسرائيلي. فالسيد كان واضحاً أنه أصبح من حق المقاومة الشرعي والأخلاقي والإنساني والقانوني أن تواجه أي عدوان أياً كان، في أي زمان ومكان، وكيفما كان.
وكانت هذه العبارة المسبوكة في كل حرف من حروفها في خطاب السيد نصر الله نقطة على السطر، وقد نزلت كالصاعقة على الإسرائيليين الذين فهموها جيداً وعرفوا ما تعنيه بالنسبة لقواعد الصراع، لا بل شكلت صدمةً أيضاً لعدد من الدول المعنية بالواقع الحدودي من الناقورة حتى القنيطرة، وخصوصاً تلك المشاركة في قوات "اليونيفيل" في الجنوب اللبناني و"الاندوف" في الجولان السوري، لأنها تحمل في طياتها معادلة جديدة مفتوحة لا أحد يستطيع أن يتكهن بطبيعتها منذ الآن، والأهم من ذلك أنها تنسجم مع معادلة وحدة الساحات والجبهات وترابطها والتي كان استهل السيد نصر الله خطابه بالتأكيد عليها مرة جديدة .
وإذا كان البعض قد فهم من هذه المعادلة الجديدة أنها تهدد القرار 1701 وكل قواعد الاشتباك التي كرّستها حرب تموز 2006، فإن التدقيق في مضمونها يشي برفع الصوت عالياً بأن الدول الحريصة على أمن الکيان الإسرائيلي أولاً، عليها أن تتحمل مسؤوليتها في منع ارتكاب حماقة جديدة كتلك التي ارتكبها رئيس حكومة الکيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القنيطرة .
وليس خافياً على أحد أن أسباب ذهاب حزب الله إلى ساحة القنيطرة، صارت موجبة له أكثر من أي وقت مضى بعد العملية الإسرائيلية الأخيرة، خصوصاً أن المقاومة كانت قد استشعرت من وراء تسهيلات الجيش الإسرائيلي العلنية لـ "جبهة النصرة" للإمساك بنحو 80 في المئة من مواقع الجيش السوري على طول خط الجبهة الأمامي، محاولة مكشوفة للالتفاف على المقاومة عبر المثلث السوري ـــ الفلسطيني ـــ اللبناني، ومن هنا، كان قرار تكليف مجموعة من الكوادر في المقاومة، وبينهم المجموعة التي سقطت في عملية القنيطرة، بالتحضير لعمل نوعي كبير من أجل كسر المنطقة العازلة التي يحاول "جيش لحد السوري" أحد أذرع القاعدة تثبيتها ميدانياً .
ولعل الإسرائيلي قد أدرك مبكراً أن هذه المجموعة المقاومة مع غيرها من المجموعات، إذا نجحت في مهمتها، ستجعل المقاومة للمرة الأولى على تماس مباشر معه في تلك الجبهة، فكان القرار الإسرائيلي بتوجيه الضربة (التدخل المباشر الأول من نوعه مع "النصرة" ضد حزب الله)، من دون أي احتساب دقيق لنتائجها وتداعياتها اللاحقة، وفي المقابل، تمكنت المقاومة من تحويل الخسارة بالدم إلى ربح استراتيجي في الصراع المفتوح مع الکيان الإسرائيلي عدو اليوم والغد، كما ردّد السيد نصرالله في خطابه النوعي الذي كان يصعب تفكيكه أو تجزئته من أوّله حتى آخره .
فالإرهاب التكفيري والإرهاب الإسرائيلي أصبحا هدفاً واحداً لمحور المقاومة، بعدما تحوّل الأوّل الى خطر يدفع بالأقليات الدينية والمذهبية الى ترك الأرض والرحيل عنها بما يسهّل على العقل الصهيوني إتمام مشروع الفرز العنصري القائم على الهوية الدينية، بينما الثاني كرّس ما هو معروف من أنه منبع الشرور بإعتباره غدة سرطانية لكنها أضحت مع التنامي المتسارع لقدرات المقاومة ووعي الشعوب ليست عصية على الاستئصال .
هو الإستنتاج الأول من خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي يعبّر عن الإنتقال الى مرحلة جديدة، أوسع إطاراً وعمقاً ومدى جغرافياً، لترسم مساراً جديداً ووجهاً آخر للمنطقة، ليس للکيان الاسرائيلي فيه اليد الطولى التي تتيح له الغطرسة والإفلات من العقاب، وإنما صار الکيان هذا في موقع حساب اي خطوة قد تقدم عليه، لأن ما ينتظره في أي حماقة جديدة سيكون المسمار الأخير في نعشه حيث لم تعد بعيدةً مراسم إزالة رسمه من الوجود على طريق القدس.