الوقت- لم يغب كاريكاتير الكرة الارضية المقدمة في شكل كعكة تتقاسمها قوى العالم الكبرى اثناء الحرب العالمية عن مخيلة أي منا فهو ملازمنا مهما تقدم الزمان وتغيرت الأمور وتطورت الأحداث كونه يوحي بأن السلطة مقسمة على الدوام بين اصحاب المال والقوة والشعوب المحرومة والمستضعفة لا نصيب لها فيها، وسنوات القهر وسنوات الجمر اللامنسية لم تُحفَر في الذاكرة لِتَحفِرَ حضراتكم جذورها في منابت و مفاصل سلط الدولة .
هو حال المواطن التونسي والأفكار التي تدور في خلده لما يراه من تطورات للاحداث في بلاد ثورة الكرامة والحرية بعد مضي أربع سنوات عليها وسقوط 219 قتيلاً وأكثر من 2750 جريح ومئات المعتقلين خلال اندلاع الثورة التي تكللت بالاطاحة بالدكتاتور "زين العابدين بن علي" الذي حكم البلاد من ۲ أبريل، ۱۹۸۹ وحتى۱۴ يناير عام ۲۰۱۱ ليفاجأ الجميع بهذا السقوط السريع فيما كانت القوى السلطوية بانتظار مقاومته أكثر من نظيره "مبارك" في مصر أو "صالح" في اليمن .
أنطلت الأوضاع على تونس وشعبها وعادت الأمور الى الوراء مرة اخرى كما هو الحال في مصر الكنانة وعاد رجال النظام السابق ليعيثوا بالثورة وأهلها الفساد.. رقص الكل على اشلاء شهداء ثورة الياسمين أحزاباً وقيادات وتيارات ومجموعات ارهابية تكفيرية أستغلت الأوضاع باعتلاء نجم "حزب النهضة" الاسلامي لتعبث بالبلاد والعباد الكوارث تلو الكوارث القتل تلو القتل والتفجير تلو الآخر هو ديدنهم أينما حلو دمروا .
أصمت نداءات المنادين بالحرية والديمقراطية آذان التونسيين وساقتهم نحو أهدافها المرتهنة بالخارج ونداءات تهافتها على السلطة بقيت في ظل الكتمان فيما تعالت أصواتهم بالدفاع عن حقوق الشعب المظلوم والمنسيّ ورفض الاسلام السياسي خلال فترة حكم "النهضة" ليسقط نجمه بعد أن أعتلى في أول انتخابات حرة جرت في تونس ويتصدر الجميع.. ولكن .
نداء ظهر من بين المتهافتين للسلطة سعياً لإرضاء الذات والدعم الأجنبي وليس خدمة للوطن، نداءٌ تهافت بالصراخ "يا بلدي" و"يا موطني" ليترشح على بقاعك زعيم الحركة النضالية "جدا" وصاحب المسيرة الفكرية والخبرة الاجتماعية والحنكة السياسية المحامي "الباجي قائد السبسي" أحد أكبر رموز نظام "بن علي" البائد ومن قبله حكومة "بورقيبة" لسنوات طويلة تسلم خلالها حقائب الداخلية والدفاع والخارجية ورئيس مجلس النواب وعضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم في عهده "التجمع الدستوري الديمقراطي" حتى 2003؛ للانتخابات الرئاسية.. ويهب للبلاد ابنه الذي يترشح رئيسا على قائمة الانتخابات التشريعية .. ليعيد للشعب التونسي ذاكرة الأنظمة الموروثية ويقرأ الفاتحة على الثورة ومكاسبها .
ان يغدو النظام في تونس وراثيا هل هو ما تنتظره تونس بعد ثورة الكرامة والحرية وتقديم شهداء، ومصابين، ومعاقين، واحتجاجات، وتظاهرات، واعتقالات، ورصاص حي، وتعذيب، وحرمان من لقمة العيش؟… ولن تنتهي اللائحة؛ لتعود الى نظام البايات الذي نشأ عليه الساسة "باع البلاد للجادارمية قبل", والذي لازل يعاني التونسيون تبعاته الى اليوم .. هذا المنحى الذي يريدونه هم ولا يريده الشعب فـ "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، لكنه مع الأسف لُدغ وعليه أن ينتبه جيداً .
"من يتأمل الوضع في تونس اليوم لا يرى إلا الأزمة. إنها أزمة عميقة معقّدة متتابعة مثل موجات المحيط، في كل الميادين... في المؤسسة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والقضائية، والاعلامية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية.. ثمة أيضا الأزمة النفسية عند الكثيرين ممن فاق مستوى الإحباط لديهم مستوى الأمل.. هل قدَرُنا الأزمة المزمنة وقد كنا نعتقد أننا انتهينا من الأزمة المستفحلة للدكتاتورية التي عشناها أكثر من عقدين؟"- الكلام لرئيس المرحلة الانتقالية "منصف المرزوقي" الذي يتسائل: "كم من الوقت سيدوم المخاض؟.. وكيف ستكون التشكيلات الجديدة وهل ستكون قادرة على الثبات طويلا أم سينخرها السوس مجددا لتدخل في مرحلة أزمة التدمير؟ ".
ثورة الياسمين الشعبية في تونس طرحت قضايا جوهرية متعلقة بصناعة مستقبل ديمقراطي وعقد اجتماعي جديد بين المواطنين والحكم يضمن التأسيس لحكم القانون والمحاسبة الدورية للحكام وتداول السلطة والفصل بين مستوياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافةً الى تداعيات هذه الثورة على البلدان العربية الأخرى .
تعيش تونس اليوم حالة من الفوضى القانونية يراد لها أن تعود الى الوراء فحكومة "الحبيب الصيد" أجبرت على إدخال تعديلات جديدة، عسى أن تنال ثقة مجلس نواب الشعب بعد ضغوطات كبيرة مارستها الأحزاب وفي مقدمتها "النهضة" و"الجيهة الشعبية" اللتانِ رفضتا تقديم الدعم للتشكيلة .
المعطيات تؤكد أن مخاض تشكيل الحكومة مرشح لكي يستمر في التفاعل، كما أنها تطرح تساؤلات مهمة حول مستقبلها في حال عدم التوصل الى توافق مع "النهضة"، باعتبارها القوة الثانية بالبلاد. فيما تتوقع التقديرات استمرار المفاوضات رغبة في التوصل الى وفاق أوسع، مع بقاء جميع الاحتمالات مفتوحة .
"الفراغ الحكومي" أكبر خوف يعانيه الشارع التونسي حيث يعرف جيداً أن ذلك سيدفع بالأمور نحو ما يصبو اليه الرئيس "السبسي" وهو العمل بالفصل 89 من الدستوربعد أن يدفع الأمور نحو عدم نيل حكومة "الصيد" ثقة البرلمان ليتسنى له حل مجلس النواب والدعوة لانتخابات تشريعية جديدة تبعد الاسلاميين أكثر فأكثر وربما تقصيهم من المشهد السياسي كما حل بمصر؛ فيما يتولى هو تعيين شخصية اخرى لرئاسة الحكومة دون تكليف الحزب الأغلبي في الانتخابات .
بقلم - جميل ظاهري
