الوقت - أثيرت في الآونة الأخيرة سجالات كثيرة بشأن إمكانية تعليق العمل بإتفاقية "شنغن" بين دول الإتحاد الأوروبي بسبب إختلاف هذه الدول في وجهات النظر حول كيفية التعاطي مع أزمة اللاجئين التي إستفحلت خلال الأشهر القليلة الماضية.
وقبل الخوض في هذا الموضوع لابد من الإشارة بشكل مختصر إلى إتفاقية "شنغن" والظروف التي نشأت فيها.
إتفاقية أو منطقة شنغن (Schengen Area) تضم 26 دولة أوروبية ألغت جواز السفر وضوابط الهجرة على الحدود المشتركة فيما بينها، وجعلتها بمثابة دولة واحدة لأغراض السفر، مع وجود سياسة تأشيرات مشتركة.
ويعود تشكيل هذه المنطقة إلى خمسينيات القرن الماضي قبل أن تتبلور في عام 1985 من خلال توقيع إتفاقية "شنغن" التي تم تفعيل بنودها في عام 1995. ومكّنت هذه الاتفاقية نحو 400 مليون شخص من السفر بحريّة في أراض تمتد مساحتها إلى أكثر من 1.6 مليون ميل مربع.
وعندما وضعت الدول الأوروبية تصوراً لمنطقة "شنغن" في بادئ الأمر، إعتقدت أنه في الوقت الذي سيجري فيه التخفيف من إجراءات الأمن على الحدود الداخلية، سيتعين على الدول الأوروبية العمل معاً لتعزيز الحدود الخارجية بصورة جماعية. ولكن مع تسبب الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأماكن أخرى من العالم بوجود أعداد كبيرة من النازحين، وتزايد تدفق اللاجئين نحو أوروبا بمعدل أسرع مما كان متوقعاً إتخذت الكثير من الدول الأوروبية إجراءات تتعارض مع روح إتفاقية "شنغن"، وبدأت الشكوك تتزايد بشأن إمكانية بقاء فكرة "أوروبا بلا حدود" خصوصاً بعد عمليات التفتيش غير المسبوقة على حدود هذه الدول.
وبالإضافة إلى مشكلة اللاجئين ظهرت مشكلة أخرى خلال الأشهر الأخيرة تمثلت بالهجمات الإرهابية التي إستهدفت عدداً من دول الإتحاد الأوروبي بينها فرنسا وإيطاليا والسويد والتي أدت إلى مقتل وجرح المئات من الأشخاص وتدمير الكثير من المؤسسات.
وفي أعقاب هذه الأحداث دعت الكثير من الشخصيات الأوروبية لمراجعة بنود إتفاقية "شنغن" لضبط الحدود بين دول الإتحاد الأوروبي والسيطرة على التدفق الهائل للمهاجرين، خصوصاً وأن هذه الإتفاقية تسمح للدول الأعضاء بغلق حدودها مؤقتاً حرصاً على الأمن القومي، فيما تعمدت بعض دول الإتحاد الخلط بين مصطلحي اللاجئين والمهاجرين للتنصل من الإلتزامات التي فرضتها القوانين الدولية الخاصة باللاجئين الذين هم عبارة عن أشخاص إضطروا لمغادرة بلدانهم بسبب الصراعات المسلحة أو الإضطهاد، وغالباً ما يكون وضعهم خطراً جداً ويعيشون في ظروف لا تُحتمل تدفعهم إلى عبور الحدود بحثاً عن الأمان في الدول الأخرى، في حين يختار المهاجرون الإنتقال إلى هذه الدول ليس بسبب تهديد مباشر بالإضطهاد أو العنف، بل لتحسين حياتهم من خلال إيجاد فرصة عمل أفضل أو مواصلة التعليم أو لمّ شمل العائلة أو أسباب أخرى.
وبدلاً من أن تساهم أوروبا في وضع حل للاجئين سواء بالتدخل المباشر من خلال إيواءهم وتشغيلهم، قامت بتضييق الخناق عليهم حيث خططت بعض الدول الأوروبية لتشييد سياج على حدودها لمنع تدفقهم، ولهذا باتت سياسة اللجوء الحالية غير مجدية، مع الأخذ بعين الإعتبار أن معاهدة "دبلن" الثالثة أكدت أن دول وسط أوروبا تبقى "معفية" من الإستقبال الأولي للاجئين، الذين يتعين عليهم الدخول إلى الإتحاد الأوروبي الذي يتحمل المسؤولية أيضاً في مأساة اللاجئين بسبب سياساته في تأجيج الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتصدير السلاح إلى بؤر النزاعات في هذه المناطق.
ومع تدفق موجات اللاجئين عاشت دول الإتحاد الأوروبي كابوساً جعلها في مواجهة تحديات بالغة الخطورة، بعد أن أثارت إنقسامات مجتمعية ومشاعر متأججة ومتوجسة من تنامي الإرهاب في عموم القارة الأوروبية، وهو ما وضع إتفاقية "شنغن" على المحك خصوصاً مع الإنتهاك الفاضح للعديد من دول الإتحاد بينها اليونان والمجر والنمسا للإتفاقية، وغضها الطرف عن تنفيذ بنودها التي تلزم هذه الدول بحماية الحدود الخارجية للإتحاد من أي خروقات وإنتهاكات أيّاً كانت طبيعتها وشكلها.
ولم يكن أمام المستشارة الألمانية "إنجيلا ميركل" سوى دق جرس الإنذار بوجه زعماء أوروبا المتزمتين وتحذيرهم بأن حرية التنقل الحر عبر الحدود بين الدول الأعضاء تواجه خطراً محدقاً إذا ما فشلت في التوصل إلى إتفاق بتوزيع عادل وإقتسام متساوٍ للاجئين بحسب تعبيرها.
وقالت ميركل: إن إعادة النظر بحرية التنقل وتعديل التشريعات وإلغاء إمتياز الحرية عبر إغلاق الحدود لا يمكن أن تكون نتيجته سوى بداية النهاية لمنظومة "شنغن" في شكلها الراهن. وقد كرر وزير الداخلية النمساوي "سباستيان كورتس" تحذير ميركل منبهاً إلى تزايد إحتمالات عدم إبقاء الحدود مفتوحة أمام حركة تنقل مواطني دول الإتحاد في حال تواصلت الحالة الراهنة بإنعدام أيّ حماية للحدود الخارجية.
ونتيجة ذلك أدى عجز المفوضية الأوروبية عن رسم موقف مشترك، ووضع حل موحد تتفق عليه جميع دولها إلى فشلها في التعاطي مع إستحقاقات هذه الأزمة، ما جعل حكومات الدول الأوروبية مكشوفة أمام تحديات لم تكن تتوقعها، والذي قلّص بدوره فضاء الخيارات المتاحة أمامها لحد إتخاذ بعضها قرارات فردية لحماية حدودها تتعارض مع المبادئ الأوروبية للتضامن في الأوضاع الطارئة والتهديدات الوجودية.