الوقت- لم يعد زخم الحديث عن التدخل البري في سوريا، كما كان منذ أسابيع. لا سيما بعد مؤتمر ميونخ، والذي كان فيه كلامٌ بارزٌ لرئيس الوزراء الروسي "ديمتري مدفيديف". ولعل تحليل خطابه في المؤتمر يدل على حجم الصلابة التي كان يتمتع بها الطرف الروسي. لكن الشيء الأبرز كان تراجع الحديث عن الخيار العسكري، و وضوح محاولة أمريكا الرضوخ لقواعد الميدان التي أرساها الطرفين الإيراني والروسي. فيما كان بارزاً كلام الجيش التركي، أمس، عن عدم استعداده للخوض في غمار التدخل البري في سوريا دون تفويضٍ من مجلس الأمن. فكيف يمكن قراءة المنعطف السوري بعد مؤتمر ميونخ؟ ولماذا رضخت واشنطن و حلفاؤها؟
أرسى رئيس الوزراء الروسي "ديمتري مدفيديف"، يوم السبت، من خلال كلمته أمام مؤتمر ميونخ، قواعد جديدة لما وصفه بالحرب الباردة بين الأطراف الدوليين لا سيما موسكو و واشنطن. في حين شدَّد على أنه لا يرى أي داعٍ لإخافة الجميع بعملية برية في سوريا. وهنا ومن خلال تحليل خطاب "مدفيديف" وصولاً الى قراءة المشهد بشكلٍ متكامل، يمكننا قول التالي:
- لا شك بأن عدداً من الأسباب تكمن في تراجع إحتمالية توتر الميدان السوري نحو تدخلٍ بري. هنا نُشير لسببين أساسيين مرتبطين. فقد نقلت صحيفة الغارديان البريطانية، بأن اللغة الصارمة التي استخدمها كلٌ من الطرفين الإيراني والروسي في ردات فعله على النوايا السعودية التركية، كانت كفيلة بردع تطور النوايا الى حالةٍ عملية. وأشارت المصادر الأوروبية الى أن الرئيس الروسي "فلادیمیربوتین"، طالب نظيره الأميركي "أوباما" بإيقاف تركيا ومنع تهورها، ووقف قصفها للأكراد ولمواقع عسكرية سورية. كما طالب واشنطن بتقديم نصيحةٍ للرياض، لتخفيض اللهجة السعودية حول الأزمة السورية. وهو ما يدل على أن روسيا تعاطت مع الطرفين كأداةٍ بيد اللاعب الأمريكي، الى جانب أنها وجَّهت في الوقت ذاته رسائل واضحة للطرفين.
- من جهتها، لم تكن طهران أقل صرامةً في التعاطي مع الموقف. فقد حذرت من خلال قياداتها العسكرية لا سيما قائد الحرس الثوري، بأن الرد سيكون قاسياً جداً، وأن القوات السعودية ستتعرض لهزيمة كبيرة لو دخلت. وهو الخطاب الذي كانت توجهه الى واشنطن. لكنها عملت على فتح باب الحلول السلمية، من خلال توجيه رسائل دبلوماسية لمن يهمُّه الأمر، عبَّر عنها وزير الخارجية "محمد جواد ظريف"، من خلال حديثه عن إمكانية الوصول الى حلٍ للقضايا الإقليمية من خلال التعاون مع الرياض وأنقرة.
- يضاف الى كل ذلك، فإن الدبلوماسية الذكية لإيران و روسيا و سوريا في ميونخ، أدت الى إرباك الدول الغربية وفي مقدمتها واشنطن الى جانب الدول الخليجية الداعمة للإرهاب في المؤتمر. حيث استطاعت هذه الدول المتحالفة في الميدان السوري، إفهام الأطراف الأخرى، بأن الخيارين، أي التدخل البري أو وقف إطلاق النار، كلاهما يعنيان الخسارة لهم. فوقف إطلاق النار سيشكل مقدمة لإندلاع المواجهات بين الجماعات الإرهابية في مختلف المناطق وبالتالي إقتتالها الداخلي، مما يعني إزدياد الخلافات بين كلٍ من تركيا والسعودية وأمريكا. أما الخيار الثاني، فقد كان أسهل وأوضح، إذ أن الجميع بات يعرف من يُمسك بالميدان اليوم.
وهنا و بناءاً لما تقدم، يمكن القول بأن واشنطن اختارت بين السيء و الأسوأ. ولعل ما كتبه "باتريك كوبرن" المحرر السياسي في صحيفة الإنديبندنت حول مكاسب وخسائر الأطراف بعد ميونخ، والذي أشار فيه الى أن واشنطن لم تخسر فقط عسكرياً وسياسياً، بل خسرت حتى قدرتها على المناورة السياسية والعسكرية. وهنا نقول التالي:
- لقد رسَّخ مؤتمر ميونخ الطرفين الروسي والإيراني، كلاعبين أساسيين في الأزمة السورية، والتي تأخذ طابعاً دولياً. وهو الأمر الذي يعني الكثير على الصعيدين السياسي والعسكري. وسيكون له أثرٌ كبيرٌ في رسم خارطة المنطقة الجيوسياسية.
- أعاد مؤتمر ميونخ الإعتبار للنظام السوري كطرفٍ شرعيٍ في الأزمة السورية، كما أعطى كلاً من تركيا والسعودية أحجامها الحقيقية والتي ظهرت بأنها قد ترفع السقف السياسي في التصريحات لا أكثر. فيما يُعتبر الأمريكي صاحب القرار الفصل. خصوصاً بعد فشل الطرفين بشكل كبير في أكثر من فرصةٍ لإحتواء خسارة الجماعات الإرهابية.
- كما أن الميدان السوري، كان الحكم في كل التفاصيل. فما قام به حلف المقاومة الى جانب روسيا، من عزلٍ شبه تام للشمال السوري عن تركيا، يعني بأن التدخل العسكري التركي لم يعد يُجدي.
- بالإضافة الى ذلك، فقد أسقط مؤتمر ميونخ دور ما يُسمى بالمعارضة المعتدلة، والتي كان من الواضح غياب الحديث عنها، من قبل الغرب. مما جعلها في خبر كان. لتكون ضحيةً من ضحايا البراغماتية الأمريكية والإستغلال الغربي. الى جانب أنها تتحمل مسؤوليةً في مضيها قدماً كأداةٍ في مشروع واشنطن. فيما يبدو من جهةٍ أخرى، بأن الأكراد أصبحوا من اللاعبين في الميدان السوري، وهو ما يُعزَّزه ما يحصل في الميدان من غض نظرٍ سوري روسي، عن تقدم الأكراد في الشرق.
إذن تراجعت إحتمالات التدخل البري أو تطور الأمور الى حربٍ في الميدان السوري. فلا السعودية قادرة على ذلك عسكرياً أو اقتصادياً. كما أن تركيا مهما فعلت فهي لن تستطيع الخروج عن الطاعة الأمريكية، لتخسر واشنطن بعد أن خسرت موسكو. فيما يجب القول بأنه لا بد من الحذر من الطرف الإسرائيلي والذي عبَّر عن امتعاضه من تطورات الميدان السوري. لكن الأمر الواقع والذي أصبح حقيقةً يعرفها العالم بأسره، هي أن مؤتمر ميونخ شكَّل منعطفاً سورياً، جعل الجميع يرضخ لقواعد الميدان. فيما كانت واشنطن أول الراضخين.