الوقت- "جنون العظمة" حال يوصف واقع أردوغان في الأونة الأخيرة، طموح واضح باعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية ليس كسلطة إسلامية فحسب، ولكن كقوة عظمى في المنطقة، وهوالذي يتوجه إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري بعد فوزة بالانتخابات، المسجد الذي كان يأخذ فيه الخلفاء العثمانيون البيعة، وان اللبيب من الاشارة يفهم.
يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى بناء "عثمانية جديدة" على غرار مصطفى أتاتورك، وبالفعل مرت تركيا بالعديد من موجات الاستقطاب داخلياً وخارجياً منذ تولي حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002، لأن سياسية الحزب كان قوامها أن "لا مشاكل مع الجيران"، الأمر الذي أحيا تركيا اقتصادياً، عسكرياً وسياسياً وساهم في زيادة شعبية أردوغان في تركيا والعالم الاسلامي.
منذ صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم وبسبب عدم القبول الأوروبي والغربي لتركيا، دأب سياسيو الحزب على مغازلة المحيط العربي بشعارات دعم القضية الفلسطينية وفك الحصار عن غزة، وذلك في ظل استمرار ونمو التعاون الاقتصادي والعسكري مع الكيان الصهيوني، بالتالي أضحت انقرة من أهم الشركاء الاقتصاديين لمعظم العواصم العربية، أما سياسياً فمشاركة أردوغان في القمة العربية عام 2010، خير دليل على عمق العلاقات مع الجيران، لكن نقطة التحول الكبرى مع تركيا كانت في بداية الصحوات الاسلامية التي أصابت الرجل بجنون العظمة، هذه الجنون أعاد النظام الذي كان واعداً في بدايات حكمه، الى سلسلة من مفترقات الطرق، كلها مؤدية لطرق مسدودة.
تغيرت سياسة أردوغان وأصبحت "لا سلام مع الجيران"، وقراراته السياسية التي لا يوجد لها أي أساس منطقي ساقت البلاد لحالة من التجمد، وقد بدأ حلمها بالعظمة في الانحسار، ولم يوجد وقت من قبل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وإعلان الجمهورية التركية، كانت تركيا في هذه الحالة من التخبط الدبوماسي مع جيرانها مثل الوقت الحالي، وهذا بسبب سياسة أردوغان الجديدة.
تستمر حكومة أردوغان ففي سياستها الجديدة عبر استعدائها لقطاعات كبيرة من سكانها مثل الأكراد والكماليين والعلويين والجولانيين، وكذلك تضييق الخناق على المعارضين والمنتقدين المحليين، اضافةً الى استمرارها في استعداء أمريكا ومصر والسعودية والإمارات وأرمينيا العراق وسوريا وغيرهم من خلال السياسات والتدابير التي تتعارض مع مصالح تلك البلدان، مثل دعم تنظيم داعش الارهابي في سوريا والعراق واستمرار دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.
مع بداية الأزمة السورية كانت تركيا أول الدول الداعمة للمعارضة المسلحة بالمال والسلاح ومن ثم تحولت إلى السماح باستخدام اراضيها لعبور آلاف الجهاديين فضلاً عن تزويدهم بمعلومات امنية واستخباراتية، وفي العراق سعى لأردوغان إيجاد موطئ قدم بعد انسحاب الاحتلال الامريكي، سواء بدعم الجماعات المسلحة لضرب وحدة العراق المفتت أصلاً لعودة الموصل وأجزاء من نينوى والأنبار إلى الحكم التركي، او بالوقيعة بين حكومة كردستان العراق والحكومة المركزية للحصول على النفط الكردي.
أردوغان الطموح لقيادة العالم الاسلامي أمعن في قتل المسلمين عبر دعمه للتنظيمات الارهابية في سوريا والعراق وعلى رأسها تنظيم "داعش" الارهابي، لذلك فان"لعبة أردوغان الخطيرة" في دعم داعش ضد الاكراد في مدينة عين العرب كوباني، لا تهدف لاضعاف الاكراد فقط، بل يريد تهيئة الظروف الدولية والاقليمية لانتهاز الفرصة التي انتظرها كثيراً من أجل وضع قدمه في التراب السوري عبر اقامة منظقة عازلة. بالتأكيد اذا أقدمت تركيا على اقامة منطقة عازلة فلن يكون لحماية كوباني الكردية بقدر ما هو اضعاف لحزب العمال الكردي، وابعاد ميليشيات الاكراد عن الحدود التركية، ولن يكون لمحاربة "داعش" التي تهدد الأمن التركي في حال أي صدام مباشر معها، بل ان الهدف الرئيسي للتدخل يكمن في توجيه صفعة لنظام الرئيس الاسد ودعم فصائل المعارضة له.
اذاً، فشلت السياسة الخارجية لتركيا في المنطقة بأكملها بعد الصحوات الاسلامية، لكنها لا زالت تستمر حتى يومنا هذا في دعم داعش والنُصرة وغيرهم، لتنفيذ مصلحتها الذي فشل أردوغان وحزبه في تحقيقها عبر سياسة "لا مشاكل مع الجيران"، ولو استمر هذا الدعم لداعش، فذلك يعني أن تركيا ستشهد أزمة سياسية دولية على غرار أزمتها الاقليمية، فلأول مرة في تاريخ تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، تتعقد وتسوء العلاقات الخارجية لتركيا، ليس فقط مع محيطها الشرق أوسطي الذي لم يتبق فيه من عواصم ترتبط بعلاقات مميزة مع أنقرة سوى تل أبيب، ولكن أيضاً مع أوروبا وأمريكا.
في الخلاصة، تركيا التي حققت معدل “صفر” في المشكلات مع جيرانها، تغير الأمر بعد أربعة سنوات إلى “صفر” معدل الهدوء مع جيرانها وربما مع العديد من دول العالم، ولم يتبقى أمامها لإنقاذ ما يمكن انقاذه إلا أن تتراجع داعمها للتيارات التكفيرية والانخراط في التسويات الاقليمية والدولية، والرضوخ لسوريا بقيادة الرئيس المنتخب بشار الأسد.