الوقت - في نوفمبر 2025، نُشر على الإنترنت فيديو قصير لعدد من أعضاء الكونغرس، من بينهم مارك كيلي، وهو ديمقراطي من ولاية أريزونا وطيار سابق في البحرية، كان جمهور الفيديو من أفراد القوات المسلحة الأمريكية، الذين طُلب منهم رفض تنفيذ أمر غير قانوني إذا تلقّوه، والالتزام بقسمهم الدستوري.
نُشر الفيديو ردًا على شائعات حول الاستخدام السياسي المحتمل للجيش في الأزمات الداخلية، بالإضافة إلى تصريحات ترامب اللاذعة حول "ولاء الجيش"، كان مُعدّوه قلقين من أن الطاعة العمياء لشخص ترامب ستحل محلّ طاعة القانون؛ لذلك، أكّدوا أن الجيش ليس أداةً في يد أي سياسي، وأن ولاءه للدستور فقط.
لكن بعد نشر هذا الفيديو القصير، لم يتوقع أحد أن يُفضي الحادث إلى انطلاق حملة دعائية جديدة من ترامب في محاولته قمع حرية التعبير في الولايات المتحدة، كان رد فعل ترامب سريعًا على إعادة نشر الفيديو؛ إذ وصف كلام النواب بـ"التحريض على التمرد ضد الحكومة" و"التحريض على التمرد العسكري".
على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "تروث"، واصل ترامب ردود فعله، واصفًا هذه السلوكيات بـ"الخيانة للحكومة"، واعتبرها خيانةً تُعاقب عليها بالإعدام. ثم أعاد نشر منشورٍ قال فيه صراحةً: "اقتلوهم".
منذ تلك اللحظة، انتهى الأمر، واحدًا تلو الآخر، كتبت وسائل الإعلام بعناوين رئيسية صادمة ومبهرجة أن ترامب دعا إلى إعدام أعضاء الكونغرس، حاول البيت الأبيض في تصريحاتٍ موجزة أن يشرح أن هذه ليست كلمات ترامب المباشرة، وأن وسائل الإعلام قد حرّفتها، لكن ترامب ومساعديه كانوا بحاجة أيضًا إلى خطة طويلة الأمد لمواجهة وسائل الإعلام هيكليًا، ولم يكن ذلك سوى إطلاق آلية إعلامية إلكترونية على الموقع الرسمي للبيت الأبيض.
في الـ 29 من نوفمبر/تشرين الثاني، أضاف البيت الأبيض قسمًا على موقعه الإلكتروني بعنوان "منتهكي الإعلام"، وفي أعلى هذه الصفحة، كُتبت ثلاث كلمات رئيسية: "مُضلِّل، مُتحيز، مفضوح".
في كل أسبوع، كانت تُعرَض على هذه الصفحة وسائل الإعلام التي خالفت تصريحات ترامب لأي سبب كان، هذا الأسبوع، وقع الاختيار على صحف بوسطن غلوب، وسي بي إس، والإندبندنت؛ وهي وسائل إعلام سلطت الضوء على الجدل الدائر حول أمر ترامب بإعدام نواب، كما تضمنت الصفحة قسمًا بعنوان "قاعة العار"، الذي أدرج أسماء وسائل إعلام مثل واشنطن بوست، ونيويورك تايمز، ووول ستريت جورنال، وبوليتيكو، وأي وسيلة إعلامية تقريبًا تنتقد سياسات ترامب، وجميعها تخضع للمراقبة، بالإضافة إلى ذلك، أُنشئت قاعدة بيانات قابلة للبحث تتضمن كلمات مفتاحية مثل "أكاذيب"، و"تشويه"، و"جنون اليسار"، وما إلى ذلك.
كان هذا إعلانًا صريحًا للحرب على الصحافة النقدية في الولايات المتحدة، وخطة طويلة الأمد لإنتاج مادة دعائية لمواصلة قمع من وصفهم ترامب سابقًا بـ"أعداء الشعب"، ومع ذلك، ثمة تناقض صارخ هنا: فترامب معروف بأنه شخصية إعلامية بالدرجة الأولى؛ بل إن الإعلام هو من أوصله إلى البيت الأبيض، ليس مرة واحدة بل مرتين، ولكن ماذا لو أنه الآن قد احتضن الإعلام ويريد إسقاط السلم الذي صعده؟
عند تحليل هذه المسألة، لا بد من ملاحظة فارق بسيط: لم يكن ترامب يومًا نتاجًا للجيل السابق من الإعلام، بل وُلد من رحم الإعلام التفاعلي، أي الشبكات والمنصات الافتراضية، بمعنى آخر، لدينا سُلّمان؛ يقف ترامب على السُلّم الأول، أي شبكات التواصل الاجتماعي، ويصعد على السُلّم الثاني، أي شركات الإعلام التقليدية.
لكن السؤال المطروح الآن: لماذا لا يستطيع ترامب، وهو خبيرٌ في وسائل التواصل الاجتماعي، غزو هذا الفضاء الآخر لمصلحته الخاصة؟ الجواب على هذا السؤال لا يكمن في ترامب نفسه، بل في طبيعة تلك الوسائط.
الفضاء الإلكتروني مبني على السرعة. فيسبوك، وإنستغرام، وإكس، وغيرها من المنصات، اعتمدت سياساتها على خوارزميات تُوزّع الانتباه، لا بناءً على عمق المحتوى، بل على استفزازه وبساطته وجاذبيته.
في هذا الفضاء، يُمكن لأي شخص التعليق وإعادة نشر أي شيء، لكن هذا لا يعني أن الجميع يُسمع؛ فالخوارزميات تُنشئ نخبًا جديدة: كلما ازدادت تطرفًا، ازدادت غرابة ما يقولونه، وكلما كبرت أكاذيبهم، ازداد انتشارها على نطاق واسع، ترامب نتاج هذا الفضاء، إذا تذكرنا كيف أصرّ، قبل ولايته الأولى، على كذبة صارخة مثل "باراك أوباما ليس أمريكيًا" - الادعاء بأنه لم يولد في الولايات المتحدة وكان عليه إظهار شهادة ميلاده - يُمكننا أن نرى كيف يُمكن بسهولة رؤية شخص ما وسماعه بهذه الطريقة: الكذب، وجذب الانتباه، والنجاح دون تكلفة تُذكر.
لكن من ناحية أخرى، يختلف الوضع في وسائل الإعلام التقليدية، ففي هذه الوسائل، توجد تسلسلات هرمية، وسياسات كلية، ومبادئ مهنية؛ مبادئ يطبقها أشخاصٌ لكلٍّ منهم سيرة ذاتية، وبنى لنفسه اسمًا وسمعة في عالم التحليل السياسي، تكمن مشكلة ترامب الرئيسية مع هؤلاء الأشخاص، فإذا دخلوا مجاله، يكاد يكونون غائبين عن الأنظار؛ لأن الاستماع إلى كلماتهم يتطلب قضاء الوقت، وقراءة مقالات مطولة، والتفكير؛ وهي أمور لا يهتم بها ترامب كثيرًا.
وبالطبع، فإن جزءًا من هذا المجال، مثل فوكس نيوز، ينحاز تلقائيًا إلى ترامب بسبب سياساته الحزبية، أما بقية وسائل الإعلام المناهضة لترامب فتلعب دورًا مزدوجًا في هذا؛ فمن جهة، تعتبر نفسها حارسة للحقيقة والقانون وحرية التعبير، وتحاول تحدي الرواية الرسمية لترامب من خلال كشف الوثائق وفحصها وتسليط الضوء على التناقضات، ومن جهة أخرى، تلعب أيضًا، عن غير قصد، على المجال الذي صممه هو، لقد حوّلت دورة الأخبار العاجلة والعناوين الصادمة والتنافس الشرس على الاهتمام العديد من هذه المنافذ، حتى لو كانت ناقدة، إلى أدوات لإعادة إنتاج جدل ترامب؛ فهي تُضخّم كل تصريح استفزازي له، وتُعيد نشره مرارًا وتكرارًا، مُعززةً بذلك ما يُفترض بها أن تُكافحه: سياسة المبالغة والاستقطاب.
وهكذا، وبينما تُعارض هذه المنافذ ترامب على مستوى المحتوى، وعلى مستوى آلياته الإعلامية، فإنها تُساهم دون قصد في ترسيخ منطق قوته، منطق يتغذى على الاهتمام أكثر من الحقيقة.
ولكن ما العمل مع هؤلاء المعارضين الذين أصبحوا مؤخرًا أكثر عجزًا من أي وقت مضى؟ فكرة ترامب هي محاربتهم بسلاحه الخاص: شعار واضح، موجز، ومُثير للجدل، تمامًا مثل برنامجه الأخير، الذي لُخّص في: "كلهم كاذبون"، وهو شعار لا يُستخدم للإقناع، بل لتشويه سمعة الإعلام تمامًا وإفراغ ساحة النقد، ليرسم في النهاية صورة مُرعبة لمستقبل حرية التعبير في أمريكا.
