الوقت- بعد أن استعرت نيران المبارزات الكلامية شهوراً، لاحت في الأفق فرصة للقاء بين ثري نيويورك اليميني وعمدتها ذي النزعة الاشتراكية، كان اللقاء مدعاةً للدهشة والاستغراب؛ فشخصيتان تبادلتا قبل أيام معدودات نعوت “الطاغية الفاشي” و"الشيوعي المعادي للسامية"، ها هما الآن يتصدران مشهد البيت الأبيض متجالسين، تفيض محياهما بابتسامات الود والترحاب، بيد أن تلاقيهما كان أمراً محتوماً لا محيد عنه؛ فترامب لا سبيل له إلى إغفال نيويورك وتجاهل شأنها.
تتربع نيويورك على عرش مدن الولايات المتحدة عظمةً وأهميةً، فهي مصدر الاقتصاد ومنارة الثقافة الأمريكية ومحتضنة الأمم المتحدة.
حسب المرء أن يتولى زمام هذه الحاضرة عبر صناديق الاقتراع، ليتحول من شخصية محلية إلى رمز عالمي يشار إليه بالبنان، لذا، فإن ما يصبو إليه أبناء نيويورك كفيل بتغيير جملة من المعادلات السياسية والاجتماعية؛ وخاصةً في هذه الآونة حيث تكشف استطلاعات رويترز/إيبسوس أن 26% فحسب من الأمريكيين يرون أداء ترامب في مجابهة أعباء المعيشة مقبولاً، في حين حقّق ممداني انتصاراً مبيناً بوعود تتراوح بين كبح جماح الإيجارات وتوفير النقل المجاني والرعاية المجانية للنشء، يسعى ترامب الآن، وقد أعيته الوعود المعلقة، إلى تصوير نفسه متماشياً مع خطى العمدة الجديد.
قصة ترامب نفسها متشابكة الجذور مع تربة نيويورك، استوطنت أسرته المدينة منذ فجر القرن العشرين، وأرست دعائم إمبراطوريتها العقارية من كوينز وبروكلين، وحين انخرط ترامب في معترك الأعمال العائلية في سبعينيات القرن المنصرم، نقل بؤرة اهتمام الشركة من أطراف المدينة إلى قلب مانهاتن ومشاريع طموحة كبرج ترامب في الشارع الخامس، ما نحت صورته كـ"ملياردير نيويوركي" - صورة ظلت راسخةً حتى اعتلائه سدة البيت الأبيض، لكن للقصة وجهاً آخر يكتنفه الظلام: فنيويورك التي طوقته بإكليل الشهرة، أوقفته أمام منصات القضاء عام 2021، وألحقت بسمعته ضرراً بليغاً، وعصفت حتى بصرح أعماله العائلية، فلم تُجدد عقوده التجارية مع المدينة، من إدارة مروج الجولف والملاهي إلى منحدرات التزلج، بعد ذلك الحين.
في ضوء هذه الخلفية المثقلة بالتاريخ، لا غرابة أن يبتسم ترامب حين استفسر صحفي من ممداني إن كان ما زال يعتبر ترامب “فاشياً”، قائلاً: “قل نعم، سيكون أيسر سبيلاً؛ لا ضير عندي"، فهو الآن، وقد تهاوت أرقامه في استطلاعات الرأي، لا يقوى على مجابهة سياسي رفع لواء خفض تكاليف المعيشة وارتقى سلم السلطة على أجنحة هذا الشعار تحديداً.
في هذا اللقاء، أطنب ترامب في الثناء على ممداني، واصفاً فوزه بـ"المعجزة" بعدما كان يحظى بدعم لا يتجاوز نقطة مئوية واحدة في الاستطلاعات الأولية، بل دافع عنه رداً على سؤال صحفي حول “وقوفه إلى جانب جهادي”، قائلاً: “إنه رجل بالغ العقلانية وسيغمرني السرور بنجاحه”.
غير أن للمسألة وجهاً آخر، فممداني أيضاً كان في أمسّ الحاجة إلى هذا اللقاء، يدرك تمام الإدراك أن تجسيد برامجه دون تدفق المال الفيدرالي، سيغدو ضرباً من المستحيل، كان ترامب قد لوّح قبل أسابيع معدودات بقطع شريان التمويل عن نيويورك، بل وأُثير احتمال إرسال الحرس الوطني إليها؛ إجراء نفّذه بالفعل في عواصم أخرى ذات صبغة ديمقراطية. كان من شأن ذلك أن يلقي بظلال أزمة هيكلية خانقة على إدارة ممداني. لذا، آثر التعامل بحصافة بالغة في هذا الاجتماع؛ متجنباً مديح ترامب مباشرةً ومسلطاً الضوء على “مواطن الالتقاء المحدودة”.
ومع ذلك، لم يتزحزح قيد أنملة عن مواقفه الراسخة؛ فحين استُنطق عن “تواطؤ أمريكا في جرائم الكيان الصهيوني”، تجاهل صمت ترامب المطبق وصدح قائلاً: “الكيان الصهيوني اقترف إبادةً جماعيةً في غزة وحكومتنا تمدّه بأسباب البقاء.” لعلها المرة الأولى التي تدوي فيها مثل هذه العبارات الجريئة في أروقة البيت الأبيض. لكنه سرعان ما أعاد دفة الحديث صوب تحسين أحوال المعيشة في نيويورك درءاً لاشتعال فتيل التوترات.
غير أن هذا التودد الظاهر من ترامب تجاه ممداني، على خلاف الديمقراطيين، لم يصادف هوى في نفوس الجمهوريين، فقد قوّض اللقاء فعلياً ركناً أساسياً من أركان استراتيجيتهم الانتخابية لانتخابات التجديد النصفي عام 2026، كان مخططاً أن يتخذوا من ممداني رمزاً لـ"اليسار المتطرف" وأداةً لبثّ الرعب في قلوب الناخبين المعتدلين في المقاعد المتأرجحة بنيويورك والمناطق المحيطة بها، لكن حين ينعت زعيم التيار اليميني إياه بـ"رجل العقلانية" ويستبشر بنجاحه، تتهاوى أسطورة الشيطنة وتفقد سحرها، يجد الجمهوريون أنفسهم الآن في مأزق عويص، إما مجاراة لهجة ترامب أو الوقوف في وجهها؛ وكلا المسلكين كفيل بتقويض أسس الجبهة الموحدة.
في المقابل، فتح هذا اللقاء أمام الديمقراطيين التقدميين نافذةً لنقل بؤرة المنافسة من “معارك الثقافة” إلى “أعباء المعيشة والإسكان والخدمات العامة”؛ ميدان يتجلى فيه قصور ترامب وعجزه، هذا التحول في ساحة المعركة ذو وجهين متناقضين: فالمواقف المناهضة لآلة الحرب وانتقاد دعم أمريكا للكيان المحتل، قد تذكي جذوة المشاركة بين الشباب والمسلمين وأبناء الأقليات الحضرية، لكنها قد تثير بواعث القلق بين الناخبين المعتدلين المؤيدين لسياسات ترامب الداعمة للكيان الصهيوني بلا حدود، وعليه، فإن لقاء ترامب وممداني ليس نصراً خالصاً ولا نكسةً محققةً؛ بل هو انعطافة في مسار السرد تفرض إعادة صياغة التكتيكات والرسائل والتحالفات الانتخابية لعام 2026.
في خاتمة المطاف، يحسن بنا أن نستشهد بعبارة لترامب تبدو مصيبةً كبد الحقيقة. قال واصفاً هذا اللقاء: “في هذا المقام، يتهافت عظماء قادة العالم للقائي، لكن هذا اللقاء مع ممداني هو ما استحوذ على ألباب وسائل الإعلام قاطبةً"، والسر في ذلك أن لقاء ممداني وترامب لم يكن مجرد اجتماع بين ساسة، بل كان إيذاناً باضطراب خارطة السلطة في أمريكا، وكأن السرديات الأمريكية العتيقة قد أخذت تتلاشى وتضمحل.
سارع السياسيون الأمريكيون المخضرمون إلى رصّ الصفوف ضد ممداني، المسلم الشيعي المناوئ للصهيونية الذي اقتحم الساحة رافعاً راية العدالة، وشنوا عليه حرباً ضروساً لا هوادة فيه، لكن حتى أشدّهم تشاؤماً لم يخطر بباله أن يستكين زعيمهم أمامه بهذه السرعة، ويضطر للتقهقر ثم التعاون، بطبيعة الحال، لا يمكن الجزم بمسارات الأحداث السياسية المقبلة كانتخابات التجديد النصفي، بيد أن الجلي الواضح أن الديمقراطيين يبدو أنهم، في أعقاب انتصار ممداني المدوي، باتوا يؤمنون بضرورة تجديد الجلد وتغيير لغة الخطاب، وعلى الأرجح سيتولى ممداني بنفسه قيادة هذه المسيرة نحو التغيير الجذري.
