الوقت- تشهد الساحة الإسرائيلية منذ عملية طوفان الأقصى وما تبعها من حرب على غزة موجة غير مسبوقة من الاضطرابات النفسية التي تضرب مختلف شرائح المجتمع. فقد كشفت تقارير عبرية عن تقديرات صادمة لحجم الأثر النفسي والاقتصادي المتنامي داخل الأراضي المحتلة، في ظل حالة من الصدمة والخوف وفقدان الاستقرار التي تسيطر على المشهد العام منذ السابع من أكتوبر. هذه الأرقام تعكس تحوّل الأزمة من مجرد تداعيات آنية إلى مشكلة بنيوية عميقة تمس الأمن الاجتماعي والاقتصادي للدولة، فيما يزيد استمرار التوتر السياسي والعسكري من تعقيد الوضع، ويُفاقم تراكم الضغط النفسي لدى مختلف الفئات العمرية بشكل غير مسبوق.
فاتورة الاضطرابات النفسية تتضخم: أعباء مالية واجتماعية غير مسبوقة
تشير المعطيات الواردة إلى توقعات بأن تكلفة علاج المشكلات النفسية، المباشرة وغير المباشرة، خلال السنوات الخمس المقبلة، قد تصل إلى 500 مليار شيكل، وهو رقم مهول يصفه مختصون بأنه يوازي ميزانيات دول بأكملها. هذه التكلفة لا تشمل فقط العلاج الطبي، بل تمتد لتغطي خسائر سوق العمل، وتراجع القدرة الإنتاجية، وزيادة الطلب على الدعم النفسي والاجتماعي، إلى جانب تكلفة غياب الآلاف من المصابين عن وظائفهم أو تراجع أدائهم. ويبدو أن المؤسسات الصحية باتت عاجزة عن استيعاب جميع الحالات، مما يضطر الكثيرين للانتظار طويلاً قبل تلقي العلاج.
وتوضح التقديرات أن نسبة الذين يعانون من اضطرابات نفسية داخل الأراضي المحتلة ارتفعت إلى 30 بالمئة من السكان، وهي نسبة ضخمة في مجتمع يوصف عادة بأنه شديد الحساسية تجاه المخاوف الأمنية. ويعني ذلك أن ما يقارب واحداً من كل ثلاثة أفراد يواجه شكلاً من أشكال المعاناة النفسية، سواء كانت اكتئاباً، قلقاً، توتراً ما بعد الصدمة، أو اضطرابات سلوكية مرتبطة بالحرب. الأخطر من ذلك أن 625 ألف شخص مهددون بفقدان وظائفهم أو عجزهم عن الاستمرار في أعمالهم نتيجة هذه الاضطرابات، وهو ما يفتح الباب أمام أزمة اقتصادية واجتماعية متداخلة.
حرب غزة وانعكاساتها على البنية النفسية للاحتلال
يبدو واضحاً أن الحرب على غزة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل شكلت نقطة تحول في الوعي الإسرائيلي وفي نظرة المجتمع إلى أمنه وواقعه. فالمخاوف الأمنية التي صاحبت أحداث طوفان الأقصى، إضافة إلى مشاهد القتال في غزة، والخسائر المستمرة في صفوف الجنود، خلقت موجة صدمة عميقة استمرت لأشهر طويلة. هذه الحرب، التي وُصفت بأنها الأكثر تعقيداً على الإطلاق، أسهمت في تآكل الشعور بالأمان الداخلي، وهو ما يظهر في ارتفاع مستويات القلق والخوف لدى المدنيين. ولم تعد المخاوف مقتصرة على المناطق الحدودية، بل امتدت إلى مدن مركزية كانت تُعد سابقاً أكثر استقراراً.
التقارير الإعلامية الإسرائيلية نفسها كانت قد أشارت سابقاً إلى ارتفاع حالات الاضطرابات النفسية بين الجنود الذين شاركوا في العمليات داخل غزة، بما في ذلك تزايد حالات الانتحار. هذه الظاهرة لا تعود فقط إلى قسوة المعارك، وإنما أيضاً إلى طبيعة الحرب الطويلة، التي دفعت العديد من الجنود إلى مواجهة أوضاع ميدانية صعبة، وعدم وضوح نهاية للحرب، إضافة إلى الضغط الاجتماعي المتزايد على الجيش لتحقيق انتصارات سريعة.
وتظهر المعطيات بوضوح أن هذه الاضطرابات لا تقتصر على المدنيين، بل تضرب المؤسسة العسكرية نفسها، ما يجعل الأزمة متعددة المستويات. فالمقاتل الذي يعاني من صدمة نفسية يصبح أقل قدرة على العمل الميداني، وأقل انضباطاً، وربما أكثر عرضة للانهيار، ما ينعكس مباشرة على كفاءة الجيش في المدى المتوسط والبعيد.
انعكاسات اقتصادية واجتماعية تهدد استقرار الاحتلال
إن الحديث عن 500 مليار شيكل خلال خمس سنوات لا يقتصر على تكلفة العلاج النفسي فحسب، بل يشمل سلسلة واسعة من التداعيات الاقتصادية. فعندما ترتفع نسبة المصابين بالاضطرابات النفسية إلى 30 بالمئة، يصبح سوق العمل مهدداً بفقدان مئات الآلاف من العمال المؤهلين، وهو ما يضعف الإنتاج، ويزيد العبء على صناديق الدعم الحكومي، ويرفع تكاليف الضمان الاجتماعي. كما يمتد التأثير إلى المؤسسات التعليمية التي تواجه صعوبات متزايدة في التعامل مع طلاب يعانون من اضطرابات متعلقة بالقلق والخوف.
كما أن تأثير الأزمة النفسية على المجتمع الإسرائيلي ينعكس على العلاقات الاجتماعية، حيث يزداد الضغط على الأسر، وترتفع نسب التفكك الأسري، وتتصاعد المشاحنات الداخلية، إضافة إلى تصاعد حالة عدم الثقة بالمؤسسات. فالشعور بفقدان الأمان النفسي، والذي يُعد جزءاً مركزياً من الهوية الإسرائيلية، تراجع بشكل واضح، مما يعمق الانقسام السياسي والاجتماعي داخل المجتمع.
وتأتي هذه الأزمات في وقت تتعرض فيه الحكومة الإسرائيلية لانتقادات داخلية شديدة، بسبب طريقة إدارتها للحرب، وتأخرها في معالجة الملفات النفسية للجنود والمدنيين، الأمر الذي يضاعف الشعور العام بفقدان القيادة والاتجاه.
أزمة مرشحة للتصاعد في السنوات المقبلة
من الواضح أن الأزمة النفسية التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي لن تكون أزمة عابرة، بل تبدو مرشحة للتمدد مع استمرار الحرب وتداعياتها. فالأضرار النفسية تحتاج سنوات طويلة للعلاج، كما أن الأثر الاقتصادي لها يتزايد مع مرور الوقت، خاصة إذا لم تتمكن مؤسسات الاحتلال من توفير دعم علاجي واسع وشامل. ومع تزايد حالات القلق بين الأطفال والمراهقين، يتوقع مختصون أن تتفاقم الآثار النفسية على المدى البعيد.
يؤكد الخبر أن السنوات الخمس القادمة ستكون الأثقل من الناحية الاقتصادية في ما يتعلق بالعلاج النفسي، مما يعني أن الاحتلال مقبل على مرحلة من التحديات التي تحتاج إلى خطط متماسكة، ليس على المستوى الطبي فقط، بل أيضاً على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي ظل عدم وجود حلول واضحة، يبدو أن عبء الأزمة قد يستمر لسنوات طويلة.
بهذا المشهد، يظهر أن ما بعد طوفان الأقصى لا يشبه ما قبله، وأن المجتمع الإسرائيلي يعيش مرحلة غير مسبوقة من الضغط النفسي الذي يهدد بنيته الداخلية واستقراره، ويضعه أمام تحديات تتجاوز الميدان العسكري لتصل إلى عمق نسيجه الاجتماعي.
