الوقت - في خضم التحولات المتسارعة التي تعصف بالمشهدين السياسي والأمني في غرب آسيا، باتت كل من إيران والسعودية أكثر ميلاً إلى توثيق عرى العلاقات الثنائية، والسعي نحو تقارب استراتيجي يرسخ أركان التفاهم بينهما، وفي هذا الإطار، انعقدت الجولة الثالثة من المباحثات المشتركة بين مساعدي وزراء خارجية إيران والسعودية، بمشاركة الصين، يوم الثلاثاء الموافق للتاسع من ديسمبر عام 2025، في العاصمة الإيرانية طهران، وقد جاء هذا الاجتماع في سياق الجهود الرامية إلى تخفيف حدة التوترات، وإعادة بناء جسور التواصل بعد الاتفاق التاريخي الذي أبرم في بكين خلال مارس 2023، ليعكس بذلك العزم الصادق من الجانبين على تعزيز الحوار، وتوطيد ركائز التعاون.
وقد ترأس هذه المباحثات السيد مجيد تخت روانجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية، بحضور السيد وليد الخريجي، نائب وزير الخارجية السعودي، والسيد مياو ديو، نائب وزير الخارجية الصيني.
وقد شدد الجانبان الإيراني والسعودي على التزامهما الراسخ بتنفيذ مضامين اتفاق بكين كافة، مع الإصرار على توطيد أواصر حسن الجوار، والتمسك بالمبادئ المستقرة في ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق منظمة التعاون الإسلامي، والقوانين الدولية، بما يضمن احترام السيادة الوطنية، وصون وحدة الأراضي، وتعزيز الاستقلالية، والحفاظ على أمن الطرفين، كما أعربت الدول الثلاث عن ترحيبها بالتقدم المضطرد في العلاقات الإيرانية السعودية، وبما يفتحه هذا التقارب من آفاق رحبة لتعزيز قنوات التواصل المباشر بين البلدين على جميع المستويات وفي شتى الحقول والمجالات.
اتساع آفاق التعاون السياسي والاقتصادي
على مدار السنوات الثلاث المنصرمة، ومنذ توقيع اتفاق السلام، أخذت إيران والمملكة العربية السعودية في بذل المساعي الحثيثة لإعادة العلاقات الثنائية إلى سابق عهدها قبل انقطاعها الدبلوماسي، والسعي الحثيث إلى تبديد الشكوك التي خيمت على الأجواء لسنين طوال، وما انعقاد اللقاءات الرسمية على مختلف المستويات إلا برهانٌ ساطع على أن تعزيز العلاقات الثنائية، وتوطيد أواصر التعاون السياسي، قد باتا في صلب الأولويات لدى طهران والرياض، في إشارة واضحة إلى إدراك الطرفين المشترك لأهمية الحوار والتعاون في خضم التعقيدات الإقليمية والدولية المتشابكة.
إن بناء العلاقات السياسية على أسس الاحترام المتبادل، ورعاية المصالح المشتركة، من شأنه أن يعزز الثقة المتبادلة، ويرسخ أركان العلاقة بين الطرفين، واستمرار التشاور السياسي لا يقتصر أثره على تمتين الروابط فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى فتح آفاق أوسع للتعاون الشامل، والإسهام في إرساء دعائم الاستقرار الإقليمي، والتعامل الحكيم مع الخلافات.
ولما كان توسيع العلاقات في مختلف الميادين يقتضي المرور عبر بوابة الدبلوماسية، فقد أولى الاجتماع الأخير في طهران اهتماماً خاصاً بهذا الجانب، ومن هنا، كانت القضايا القنصلية محوراً بارزاً في جدول أعمال الاجتماع، حيث تباحث الطرفان حول تسهيل إجراءات سفر المواطنين، وزيادة عدد الرحلات الجوية المنتظمة، وتحسين الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين، وإزالة العوائق القنصلية، ويكتسب هذا الجانب أهميةً خاصةً، ولا سيما مع توافد ما يزيد على خمسة وثمانين ألف حاج، وأكثر من مئتين وعشرة آلاف معتمر إيراني في عام 2025، ما يجعل تعزيز التعاون القنصلي ضرورةً عمليةً، وفرصةً مواتيةً لقياس عمق الشراكة بين البلدين.
وفي موازاة ذلك، فإن ازدهار التعاون السياسي سيسهم في إنعاش حركة التبادل التجاري بين البلدين، وفي هذا الإطار، شدد الجانبان على أهمية تفعيل اللجان المشتركة، وإطلاق مشاريع محددة في قطاعات حيوية كقطاع الطاقة، والنقل، والاستثمار، والتجارة، باعتبارها ركائز أساسية للتعاون الاقتصادي.
تمتلك كل من إيران والسعودية إمكانيات اقتصادية هائلة، تتيح لهما فرصاً واعدةً لتوسيع آفاق التعاون، فكلا البلدين يعدّ من كبار منتجي الطاقة في العالم، ولهما دور محوري في أسواق النفط والغاز، وإن التنسيق الأوثق في هذا المجال، والاستثمار المشترك في صناعات النفط والغاز والبتروكيماويات، فضلاً عن التعاون في إطار منظمات كأوبك، يمكن أن يجلب للطرفين مكاسب اقتصادية جليلة.
وتمتاز إيران ببنية تحتية صناعية راسخة، وموقع استراتيجي فريد يجعلها بوابةً حيويةً للتجارة والنقل في المنطقة، مما يؤهلها لتكون شريكاً مثالياً للمملكة في المشاريع الاقتصادية والتجارية الكبرى، وفي المقابل، فإن السعودية، بقدراتها المالية الهائلة وبرامجها الاستثمارية الطموحة التي تندرج ضمن رؤية المملكة 2030، تمتلك إمكانات وافرة للاستثمار في قطاعات اقتصادية متنوعة في إيران، تشمل الطاقة المتجددة، والصناعات، والسياحة، والخدمات، وإن زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، وتيسير العلاقات المصرفية والمالية، من شأنهما أن يعززا الروابط الاقتصادية، ويقللا من العقبات التي تعترض طريق التعاون.
ورغم أن حجم التبادل التجاري بين إيران والسعودية لا يزال متواضعاً، إلا أن الإحصاءات الرسمية تشير إلى نمو ملحوظ منذ توقيع اتفاق السلام، فقد ذكر رئيس هيئة الجمارك الإيرانية، فرود عسکري، أن التجارة غير النفطية بين البلدين بلغت في عام 2024 نحو واحد وستين ألف طن من الصادرات والواردات، بقيمة خمسة وعشرين مليون دولار، مسجلةً نمواً بنسبة 6483% مقارنةً بالعام الذي سبقه، وتضمنت أبرز صادرات إيران إلى السعودية منتجات كالفولاذ، والحديد، والفستق، والزبيب، والسجاد، والزجاج، والتفاح، وفي الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، بلغت قيمة التجارة بين البلدين نحو أربعمئة وعشرة آلاف دولار، وهو ما يعادل أقل من 0.03% من إجمالي تجارة إيران مع الدول العربية، وقد بلغت حصة إيران من الصادرات نحو ثلاثمئة وخمسة وأربعين ألف دولار، مقابل أربعة وستين ألف دولار من الجانب السعودي.
وجدير بالذكر أنه في عام 2006، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين مليار دولار، وهو الرقم الأعلى في تاريخ العلاقات التجارية بينهما، ومع ذلك، فإن التوجهات الحالية، والجهود المبذولة في العامين الأخيرين، تبشر بآفاق جديدة لنمو هذه العلاقات التجارية.
وفي سبيل تسريع تنفيذ البرامج الاقتصادية المشتركة، استمرت اللقاءات المنتظمة بين مسؤولي البلدين. ففي أبريل 2024، قام محافظ البنك المركزي الإيراني، محمد رضا فرزين، بزيارة إلى السعودية لتعزيز العلاقات المصرفية والمالية، حيث تباحث مع مسؤولين سعوديين حول تيسير التبادلات المالية بين البلدين. وفي الوقت نفسه، التقى القنصل الإيراني في جدة، حسن زرنکار، برئيس غرفة تجارة مكة، صالح عبد الله كامل، حيث أكدا على ضرورة تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي، وفي ديسمبر 2024، أعلن وزير الزراعة الإيراني، غلام رضا نوري قزلجه، عن تشكيل فريق عمل مشترك بين البلدين لتعزيز التعاون في مجالات الموارد الطبيعية، والقضايا البيئية، والزراعة.
وهكذا، فإن انعقاد اللقاءات الاقتصادية يدل على أن الحكومة الإيرانية قد أولت اهتماماً خاصاً بتطوير التعاون مع الجوار، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، ويبدو أن تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول الجوار سيتيح لإيران تفعيل جزء كبير من طاقاتها الكامنة في الأسواق الداخلية والإقليمية، مما قد يسهم بدوره في تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
الصين تتجاوز دور الوساطة
رغم ما تبذله إيران والسعودية من جهود حثيثة لتوطيد أواصر التعاون الثنائي، فإن للصين دوراً محورياً يتجاوز مجرد الوساطة التقليدية، فقد أصبح “اتفاق السلام في بكين” بمثابة العمود الفقري للعلاقات بين البلدين، حيث تضطلع بكين بدور الضامن السياسي المحايد، وقد أبان اجتماع طهران عن أن هذا الدور لم يقتصر على التثبيت، بل امتد ليشمل آفاقاً أرحب، فالصين، بإعلانها عن استمرار دعمها لمسيرة التقارب بين طهران والرياض، قد فتحت نوافذ جديدة لدبلوماسية شرقية شاملة، مرسخةً بذلك إطاراً بديلاً عن النماذج التقليدية ذات الطابع الغربي.
إن الصين، بنظرتها الاستراتيجية الطويلة الأمد إلى التحولات التي تشهدها منطقة غرب آسيا، تدرك تمام الإدراك أن استقرار المنطقة، وتعزيز التعاون بين أقطابها الرئيسيين، هما ركنان لا غنى عنهما لتحقيق أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى، ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز العلاقات بين إيران والسعودية لا يعد بالنسبة لها انتصاراً دبلوماسياً عابراً، بل هو جزء أصيل من استراتيجية كبرى تستهدف إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة.
ويعد مشروع “الحزام والطريق”، أهم المبادرات الصينية وأكثرها طموحاً، رهيناً بوجود مسارات آمنة ومستقرة وموثوقة، وفي هذا السياق، تمثّل إيران والسعودية ركيزتين لا غنى عنهما لتحقيق هذا الطموح؛ إذ تملك إيران موقعاً جغرافياً استراتيجياً يربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، بينما تتمتع السعودية بموقعها المحوري في شرايين الطاقة الحيوية والتجارة البحرية، وكلما زاد التنسيق والانسجام بين طهران والرياض، تسارعت وتيرة تحقيق هذه الممرات الحيوية بأقل كلفة وأعلى جدوى.
وفي ميدان الطاقة، يتجلى الدور الصيني بصورة لافتة، إذ تعد بكين أكبر مستورد للنفط من كل من إيران والسعودية، واستقرار العلاقات بين هذين البلدين يعزز أمن الطاقة للصين، التي تسعى من خلال علاقاتها الاقتصادية الواسعة إلى استخدام الطاقة كأداة لتقريب وجهات النظر وتوحيد المصالح بين طهران والرياض، وتحويل التعاون الاقتصادي إلى روابط سياسية أشدّ متانةً.
ولا تقف طموحات الصين عند هذا الحد، بل تهدف إلى تحويل السلام والتعاون بين إيران والسعودية إلى منصة إقليمية تستقطب دولاً أخرى للانضمام تحت مظلة شراكات استراتيجية مع بكين، وتتضاعف أهمية هذا التوجه في ظل احتدام المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، حيث تجد بكين نفسها في حاجة ماسة إلى دعم الدول المنتجة للطاقة، سواء كانت صغيرة أم كبيرة، ومن هذا المنطلق، فإن جهود الصين الحثيثة لتقريب المسافات بين طهران والرياض لا تنحصر في إطار دبلوماسي ضيق، بل تمثل جزءاً من مشروع أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى العالمية بما يخدم مصالحها.
معالجة ملفات المنطقة المشتعلة
باعتبارهما ركنين رئيسيين في معادلات السياسة والأمن الإقليمي، تملك إيران والسعودية القدرة على تجاوز حدود التعاون الثنائي لتوسيع دائرة التنسيق إلى الملفات الإقليمية الشائكة، وقد ركزت المحادثات الأمنية في اجتماع طهران على إدارة الأزمات الإقليمية، ومنع تفاقم النزاعات، والعمل على إيجاد أرضية مشتركة لفهم التحديات والتهديدات التي تواجه المنطقة.
لقد أثبتت التجارب السابقة أن التوتر والمنافسة بين طهران والرياض لم يساهما في حل أزمات المنطقة، بل كانا، في بعض الأحيان، سبباً في تأجيجها وزيادة اضطرابها، ومن هنا، فإن السير في مسار الحوار والتعاون، يشكّل نقطة تحول حاسمة في إدارة الأزمات المزمنة التي تعصف بالمنطقة.
ويبرز الملف اليمني كأحد أكثر القضايا تعقيداً والتي ألقت بظلالها الكثيفة على العلاقات بين إيران والسعودية خلال العقد الأخير، فقد تحولت اليمن إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ما خلّف خسائر بشرية وسياسية وأمنية فادحة لكل الأطراف المعنية، وفي اجتماع طهران الثلاثي، اتفقت طهران والرياض، بمشاركة بكين، على تبني حل سياسي شامل تحت مظلة الأمم المتحدة للأزمة اليمنية، وهو ما تجلى بوضوح في البيان المشترك الصادر عن الاجتماع.
وعليه، فإن إدراك إيران والسعودية للمصالح المشتركة التي تكمن في استقرار المنطقة، يمكن أن يشكل منطلقاً للتعاون المشترك من أجل خفض التوترات، ووقف الاقتتال، وتهيئة الساحة لحوار يمني-يمني، وتزامن انعقاد الاجتماع الثلاثي مع تصاعد التحركات العسكرية التي تقودها السعودية والإمارات في المناطق المحتلة من اليمن، ما يحمل رسالةً مفادها بأن إيران تعتزم تسخير الوسائل السياسية والدبلوماسية لإيجاد حلول ناجعة للأزمات الإقليمية،وإذا ما أبدى الجانب السعودي الإرادة السياسية اللازمة، فإن ثمة قواسم مشتركة عديدة يمكن البناء عليها لتحقيق السلام والاستقرار الدائم في اليمن.
ولطالما سعت إيران والصين إلى إرساء دعائم الاستقرار في اليمن، بينما ظلت السعودية، تحت تأثير السياسات الأمريكية، تسلك نهجاً مغايراً أدى إلى تأجيج التوترات في منطقة البحر الأحمر، ومن هذا المنطلق، يمكن لإيران والصين أن تذكرا السعودية بعواقب السياسات التصعيدية التي تتبناها واشنطن في اليمن، وأن تمهدا الطريق نحو تشكيل تحالف ثلاثي يضع حداً لهذه الأزمة التي امتدت لعقد كامل.
وعلى نطاق أوسع، فإن تصاعد التهديدات الصادرة عن الكيان الصهيوني في المنطقة، يبرز الحاجة الماسة إلى تعاون وثيق بين القوى الكبرى في العالم الإسلامي، وفي هذا السياق، دعت الدول الثلاث المشاركة في اجتماع طهران، إلى وقف فوري لانتهاكات الكيان الصهيوني بحق فلسطين ولبنان وسوريا، وأدانت اعتداءاته المتكررة على السيادة الإيرانية ووحدة أراضيها.
إن إيران والسعودية، باعتبارهما قوتين مؤثرتين في المشهد الإقليمي، قادرتان على بناء جدار متين يقف في وجه مغامرات تل أبيب، إذا ما حظيتا بدعم الصين، وعززا روابطهما السياسية وحتى الأمنية، ومن موقعها كقوة اقتصادية عالمية، تدرك الصين خطورة السياسات الإسرائيلية المزعزعة للاستقرار، وانعكاساتها السلبية على أمن المنطقة ومصالحها الاقتصادية، ولذلك، تسعى بكين، بالتنسيق مع شركائها الإيرانيين والسعوديين، إلى تسخير الدبلوماسية المتعددة الأطراف لكبح جماح هذا التهديد.
أما طهران والرياض، فهما تعيان تماماً أن التكاتف والتكامل في مواجهة هذا الكيان، كفيل بأن يعزز قدرتهما على إحباط مخططاته ودحض مؤامراته، ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار في المنطقة.
